بقولهم : ساحر ، مجنون ، شاعر ، أساطير الأولين ، ولييأسوا أيضا من إدخال الشكّ عليه في صدق إيمان أصحابه ، وإلقاء الوحشة بينه وبينهم بما حاولوا من طرده أصحابه عن مجلسه حين حضور خصومه ، فأمره الله أن يقول لهم إنّه على يقين من أمر ربّه لا يتزعزع. وعطف على ذلك جواب عن شبهة استدلالهم على تكذيب الوعيد بما حلّ بالأمم من قبلهم بأنّه لو كان صدقا لعجّل لهم العذاب ، فقد كانوا يقولون : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ويقولون : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ١٦] ، فقال الله لرسوله صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٥٨] ، وأكّد الجملة بحرف التأكيد لأنّهم ينكرون أن يكون على بيّنه من ربّه.
وإعادة الأمر بالقول لتكرير الاهتمام الذي تقدّم بيانه عند قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) [الأنعام : ٤٠].
والبيّنة في الأصل وصف مؤنّث بيّن ، أي الواضحة ، فهي صفة جرت على موصوف محذوف للعلم به في الكلام ، أي دلالة بيّنة أو حجّة بيّنة. ثم شاع إطلاق هذا الوصف فصار اسما للحجّة المثبتة للحقّ التي لا يعتريها شك ، وللدلالة الواضحة ، وللمعجزة أيضا ، فهي هنا يجوز أن تكون بمعنى الدلالة البيّنة ، أي اليقين. وهو أنسب ب (عَلى) الدالة على التمكّن ، كقولهم : فلان على بصيرة ، أي أنّي متمكّن من اليقين في أمر الوحي.
ويجوز أن يكون المراد بالبيّنة القرآن ، وتكون (على) مستعملة في الملازمة مجازا مرسلا لأنّ الاستعلاء يستلزم الملازمة ، أي أنّي لا أخالف ما جاء به القرآن.
و (مِنْ رَبِّي) صفة ل (بَيِّنَةٍ) يفيد تعظيمها وكمالها. و (من) ابتدائية ، أي بيّنة جائية إليّ من ربّي ، وهي الأدلّة التي أوحاها الله إليه وجاء بها القرآن وغيره. ويجوز أن تكون (من) اتّصالية ، أي على يقين متّصل بربّي ، أي بمعرفته توحيده ، أي فلا أتردّد في ذلك فلا تطمعوا في صرفي عن ذلك ، أي أنّي آمنت بإله واحد دلّت على وجوده ووحدانيته دلائل خلقه وقدرته ، فأنا موقن بما آمنت به لا يتطرّقني شك. وهذا حينئذ مسوق مساق التعريض بالمشركين في أنّهم على اضطراب من أمر آلهتهم وعلى غير بصيرة.
وجملة (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) في موضع الحال من (بَيِّنَةٍ). وهي تفيد التعجّب منهم أن كذّبوا بما دلّت عليه البيّنة. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة (إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) ، أي أنا على بيّنة وأنتم كذّبتم بما دلّت عليه البيّنات فشتّان بيني وبينكم.