وحقيقة (عند) أنّها ظرف المكان القريب. وتستعمل مجازا في استقرار الشيء لشيء وملكه إيّاه ، كقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٥٩]. وتستعمل مجازا في الاحتفاظ بالشيء ، كقوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [الزخرف : ٨٥] (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) [إبراهيم : ٤٦] ولا يحسن في غير ذلك (١).
والمراد ب (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) العذاب المتوعّد به. عبّر بطريق الموصولية لما تنبئ به الصلة من كونه مؤخّرا مدّخرا لهم وأنّهم يستعجلونه وأنّه واقع بهم لا محالة ، لأنّ التعجيل والتأخير حالان للأمر الواقع ؛ فكان قوله : (تَسْتَعْجِلُونَ) في نفسه وعيدا. وقد دلّ على أنّه بيد الله وأنّ الله هو الذي يقدّر وقته الذي ينزل بهم فيه ، لأنّ تقديم المسند الظرف أفاد قصر القلب ، لأنّهم توهّموا من توعّد النبي صلىاللهعليهوسلم إيّاهم أنّه توعّدهم بعقاب في مقدرته. فجعلوا تأخّره إخلافا لتوعّده ، فردّ عليهم بأنّ الوعيد بيد الله ، كما سيصرّح به في قوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ). فقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) تصريح بمفهوم القصر ، وتأكيد له. وعلى وجه كون ضمير (بِهِ) للقرآن ، فالمعنى كذّبتهم بالقرآن وهو بيّنة عظيمة ، وسألتم تعجيل العذاب تعجيزا لي وذلك ليس بيدي.
وجملة (يَقُصُّ الْحَقَ) حال من اسم الجلالة أو استئناف ، أي هو أعلم بالحكمة في التأخير أو التعجيل.
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم ، وأبو جعفر (يَقُصُ) ـ بضمّ القاف وبالصاد المهملة ـ فهو من الاقتصاص ، وهو اتّباع الأثر ، أي يجري قدره على أثر الحقّ ، أي على وفقه ؛ أو هو من القصص ، وهو الحكاية أي يحكي بالحق ، أي أنّ وعده واقع لا محالة
__________________
(١) أردت بهذا أنّ استعمال (عند) مجازا في غير ما ذكرنا مشكوك في صحّة استعماله في كلام العرب ، فقول أبي فراس :
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة |
|
ليس بجار على الاستعمال |
وأمّا قول المعرّي :
أعندي وقد مارست كلّ خفيّة |
|
يصدّق واش أو يخيّب آمل |
فهو أقرب للاستعمال بأن يكون (عند) حقيقة في المكان ، أي المكان القريب منّي يريد مجلسه ، أي لا يقع تصديق ذلك في مقامي. وأما قول الشاعر :
عندي اصطبار وأمّا أنّني جزع |
|
يوم النوى فلبعد كاد يبريني |
فلا يعرف قائله ، ويظهر أنّه مولّد وهو من شواهد المسائل النحوية.