صفاته في ضمن دليل وحدانيته. وفي هذا تقريب للبعث بعد الموت.
فقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) صيغة قصر لتعريف جزأي الجملة ، أي هو الذي يتوفّى الأنفس دون الأصنام فإنّها لا تملك موتا ولا حياة.
والخطاب موجه إلى المشركين كما يقتضيه السياق السابق من قوله : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٥٨] واللاحق من قوله (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٦٤] ويقتضيه طريق القصر. ولمّا كان هذا الحال غير خاصّ بالمشركين علم منه أنّ الناس فيه سواء.
والتوفّي حقيقته الإماتة ، لأنّه حقيقة في قبض الشيء مستوفى. وإطلاقه على النوم مجاز لشبه النوم بالموت في انقضاء الإدراك والعمل. ألا ترى قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الزمر : ٤٢]. وقد تقدّم تفصيله عند قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) في سورة آل عمران [٥٥].
والمراد بقوله : (يَتَوَفَّاكُمْ) ينيمكم بقرينة قوله : (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) ، أي في النهار ، فأراد بالوفاة هنا النوم على التشبيه. وفائدته أنّه تقريب لكيفية البعث يوم القيامة ، ولذا استعير البعث للإفاقة من النوم ليتمّ التقريب في قوله : (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ).
ومعنى (جَرَحْتُمْ) كسبتم ، وأصل الجرح تمزيق جلد الحيّ بشيء محدّد مثل السكين والسيف والظفر والناب. وتقدّم في قوله : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) في سورة العقود [٤٥]. وأطلق على كلاب الصيد وبزاته ونحوها اسم الجوارح لأنّها تجرح الصيد ليمسكه الصائد. قال تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) وتقدّم في سورة العقود [٤]. كما سمّوها كواسب ، كقول لبيد :
غضفا كواسب ما يمنّ طعامها
فصار لفظ الجوارح مرادفا للكواسب ؛ وشاع ذلك فأطلق على الكسب اسم الجرح ، وهو المراد هنا. وقال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الجاثية : ٢١].
وجملة : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) معترضة لقصد الامتنان بنعمة الإمهال ، أي ولو لا فضله لما بعثكم في النهار مع علمه بأنّكم تكتسبون في النهار عبادة غيره ويكتسب بعضكم بعض ما نهاهم عنه كالمؤمنين.