وهذا تهديد للمشركين كما قلنا بطريق المجاز أو الكناية. وقد وقع منه الأخير فإنّ المشركين ذاقوا بأس المسلمين يوم بدر وفي غزوات كثيرة.
في «صحيح البخاري» عن جابر بن عبد الله قال : «لما نزلت (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول صلىاللهعليهوسلم : أعوذ بوجهك. قال : (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : أعوذ بوجهك قال : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال رسول الله : هذا أهون ، أو هذا أيسر». ا ه. واستعاذة النبي صلىاللهعليهوسلم من ذلك خشية أن يعمّ العذاب إذا نزل على الكافرين من هو بجوارهم من المسلمين لقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] وفي الحديث قالوا : «يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث» وفي الحديث الآخر «ثم يحشرون على نيّاتهم». ومعنى قوله : هذه أهون ، أنّ القتل إذا حلّ بالمشركين فهو بيد المسلمين فيلحق المسلمين منه أذى عظيم لكنّه أهون لأنّه ليس فيه استئصال وانقطاع كلمة الدين ، فهو عذاب للمشركين وشهادة وتأييد للمسلمين. وفي الحديث : «لا تتمنّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية». وبعض العلماء فسّر الحديث بأنّه استعاذ أن يقع مثل ذلك بين المسلمين. ويتّجه عليه أن يقال : لما ذا لم يستعذ الرسول صلىاللهعليهوسلم من وقوع ذلك بين المسلمين ، فلعلّه لأنه أوحي إليه أنّ ذلك يقع في المسلمين ، ولكن الله وعده أن لا يسلّط عليهم عدوّا من غير أنفسهم. وليست استعاذته بدالة على أنّ الآية مراد بها خطاب المسلمين كما ذهب إليه بعض المفسّرين ، ولا أنّها تهديد للمشركين والمؤمنين ، كما ذهب إليه بعض السلف ؛ إلّا على معنى أنّ مفادها غير الصريح صالح للفريقين لأنّ قدرة الله على ذلك صالحة للفريقين ، ولكن المعنى التهديدي غير مناسب للمسلمين هنا. وهذا الوجه يناسب أن يكون الخبر مستعملا في أصل الإخبار وفي لازمه فيكون صريحا وكناية ولا يناسب المجاز المركّب المتقدّم بيانه.
(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).
استئناف ورد بعد الاستفهامين السابقين. وفي الأمر بالنظر تنزيل للمعقول منزلة المحسوس لقصد التعجيب منه ، وقد مضى في تفسير قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة النساء [٥٠].
وتصريف الآيات تنويعها بالترغيب تارة والترهيب أخرى. فالمراد بالآيات آيات القرآن. وتقدّم معنى التصريف عند قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ