وفي الفصل الحادي عشر من سفر التكوين من التوراة أنّ بلد تارح أبي إبراهيم هو (أور الكلدانيين). وفي «معجم ياقوت» (أور) ـ بضم الهمزة وسكون الواو ـ من أصقاع رامهرمز من خوزستان». ولعلّه هو أور الكلدانيين أو جزء منه أضيف إلى سكّانه. وفي سفر التكوين أنّ (تارح) خرج هو وابنه إبراهيم من بلده أور الكلدانيين قاصدين أرض كنعان وأنهما مرّا في طريقهما ببلد (حاران) وأقاما هناك ومات تارح في حاران. فلعلّ أهل حاران دعوه آزر لأنّه جاء من صقع آزر. وفي الفصل الثاني عشر من سفر التكوين ما يدلّ على أنّ إبراهيم ـ عليهالسلام ـ نبّئ في حاران في حياة أبيه.
ولم يرد في التوراة ذكر للمحاورة بين إبراهيم وأبيه ولا بينه وبين قومه.
ولذا فالأظهر أن يكون (آزَرَ) في الآية منادى وأنّه مبني على الفتح. ويؤيد ذلك قراءة يعقوب (آزَرَ) مضموما. ويؤيّده أيضا ما روي : أنّ ابن عباس قرأه أإزر ـ بهمزتين أولاهما مفتوحة والثانية مكسورة ـ ، وروي : عنه أنّه قرأه ـ بفتح الهمزتين ـ وبهذا يكون ذكر اسمه حكاية لخطاب إبراهيم إيّاه خطاب غلظة ، فذلك مقتضى ذكر اسمه العلم.
وقرأ الجمهور (آزَرَ) ـ بفتح الراء ـ وقرأه يعقوب ـ بضمّها ـ. واقتصر المفسّرون على جعله في قراءة ـ فتح الراء ـ بيانا من (لِأَبِيهِ) ، وقد علمت أنّه لا مقتضي له.
والاستفهام في (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) استفهام إنكار وتوبيخ.
والظاهر أنّ المحكي في هذه الآية موقف من مواقف إبراهيم مع أبيه ، وهو موقف غلظة ، فيتعيّن أنّه كان عند ما أظهر أبوه تصلّبا في الشّرك. وهو ما كان بعد أن قال له أبوه (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) [مريم : ٤٦] وهو غير الموقف الذي خاطبه فيه بقوله : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) الآيات في سورة مريم [٤٢].
و (تَتَّخِذُ) مضارع اتّخذ ، وهو افتعال من الأخذ ، فصيغة الافتعال فيه دالّة على التكلّف للمبالغة في تحصيل الفعل. قال أهل اللغة : قلبت الهمزة الأصلية تاء لقصد الإدغام تخفيفا وليّنوا الهمزة ثم اعتبروا التاء كالأصلية فربما قالوا : تخذ بمعنى اتّخذ ، وقد قرئ بالوجهين قوله تعالى : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [الكهف : ٧٧] و (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) فأصل فعل اتّخذ أن يتعدّى إلى مفعول واحد وكان أصل المفعول الثاني حالا ، وقد وعدنا عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) في سورة البقرة [٦٧] بأن نبيّن استعمال (اتّخذ) وتعديته في هذه السورة. ومعنى تتّخذ هنا تصطفي وتختار ؛ فالمراد أتعبد أصناما.