وقوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى حجّة مستنبطة من دلالة أحوال الموجودات على وجود صانعها.
والرؤية هنا مستعملة للانكشاف والمعرفة ، فالإراءة بمعنى الكشف والتعريف ، فتشمل المبصرات والمعقولات المستدلّ بجميعها على الحق وهي إراءة إلهام وتوفيق ، كما في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ١٨٥] ، فإبراهيم ـ عليهالسلام ـ ابتدئ في أوّل أمره بالإلهام إلى الحقّ كما ابتدئ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالرؤية الصادقة. ويجوز أن يكون المراد بالإراءة العلم بطريق الوحي. وقد حصلت هذه الإراءة في الماضي فحكاها القرآن بصيغة المضارع لاستحضار تلك الإراءة العجيبة كما في قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [فاطر : ٩].
والملكوت اتّفق أئمّة اللغة على أنّه مصدر كالرغبوت والرّحموت والرّهبوت والجبروت. وقالوا : إنّ الواو والتاء فيه للمبالغة. وظاهره أنّ معناه الملك ـ بكسر الميم ـ لأنّ مصدر ملك الملك ـ بكسر الميم ـ ولمّا كان فيه زيادة تفيد المبالغة كان معناه الملك القوي الشديد. ولذلك فسّره الزمخشري بالربوبية والإلهية. وفي «اللسان» : ملك الله وملكوته سلطانه ولفلان ملكوت العراق ، أي سلطانه وملكه. وهذا يقتضي أنّه مرادف للملك ـ بضمّ الميم ـ وفي طبعة «اللسان» في بولاق رقمت على ميم ملكه ضمّة.
وفي «الإتقان» عن عكرمة وابن عبّاس : أنّ الملكوت كلمة نبطيّة. فيظهر أنّ صيغة (فعلوت) في جميع الموارد التي وردت فيها أنّها من الصيغ الدخيلة في اللغة العربية ، وأنّها في النبطيّة دالّة على المبالغة ، فنقلها العرب إلى لغتهم لما فيها من خصوصية القوّة. ويستخلص من هذا أنّ الملكوت يطلق مصدرا للمبالغة في الملك ، وأنّ الملك (بالضمّ) لما كان ملكا (بالكسر) عظيما يطلق عليه أيضا الملكوت. فأمّا في هذه الآية فهو مجاز على كلا الإطلاقين لأنّه من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول ، وهو المملوك ، كالخلق على المخلوق ، إمّا من الملك ـ بكسر الميم ـ أو من الملك ـ بضمّها ـ.
وإضافة ملكوت السماوات والأرض على معنى (في). والمعنى ما يشمله الملك أو الملك ، والمراد ملك الله. والمعنى نكشف لإبراهيم دلائل مخلوقاتنا أو عظمة سلطاننا كشفا يطلعه على حقائقها ومعرفة أن لا خالق ولا متصرّف فيما كشفنا له سوانا.
وعطف قوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) على قوله : (وَكَذلِكَ) لأنّ (وَكَذلِكَ) أفاد كون المشبّه به تعليما فائقا. ففهم منه أنّ المشبّه به علّة لأمر مهمّ هو من جنس المشبّه به.