وتعريف الجزأين مفيد للقصر لأنّه لم يقل : هذا ربّ. فدلّ على أنّ إبراهيم عليهالسلام أراد استدراج قومه فابتدأ بإظهار أنّه لا يرى تعدّد الآلهة ليصل بهم إلى التوحد واستبقى واحدا من معبوداتهم ففرض استحقاقه الإلهية كيلا ينفروا من الإصغاء إلى استدلاله.
وظاهر قوله (قالَ) إنّه خاطب بذلك غيره ، لأنّ القول حقيقته الكلام ، وإنّما يساق الكلام إلى مخاطب. ولذلك كانت حقيقة القول هي ظاهر الآية من لفظها ومن ترتيب نظمها إذ رتّب قوله (فَلَمَّا جَنَ) على قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] وقوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام : ٧٥] ورتّب ذلك كلّه على قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) [الأنعام : ٧٤] الآية ، ولقوله تعالى : (قالَ هذا رَبِّي) وإنّما يقوله لمخاطب ، ولقوله عقب ذلك (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) ، ولأنّه اقتصر على إبطال كون الكواكب آلهة واستدلّ به على براءته ممّا يشركون مع أنّه لا يلزم من بطلان إلهية الكواكب بطلان إلهية أجرام أخرى لو لا أنّ ذلك هو مدّعى قومه ؛ فدلّ ذلك كلّه على أنّ إبراهيم ـ عليهالسلام ـ قال ذلك على سبيل المجادلة لقومه وإرخاء العنان لهم ليصلوا إلى تلقّي الحجّة ولا ينفروا من أول وهلة فيكون قد جمع جمعا من قومه وأراد الاستدلال عليهم.
وقوله : (هذا رَبِّي) أي خالقي ومدبّري فهو مستحقّ عبادتي. قاله على سبيل الفرض جريا على معتقد قومه ليصل بهم إلى نقض اعتقادهم فأظهر أنّه موافق لهم ليهشّوا إلى ذلك ثم يكرّ عليهم بالإبطال إظهارا للإنصاف وطلب الحقّ. ولا يريبك في هذا أنّ صدور ما ظاهره كفر على لسانه ـ عليهالسلام ـ لأنّه لمّا رأى أنّه ذلك طريق إلى إرشاد قومه وإنقاذهم من الكفر ، واجتهد فرآه أرجى للقبول عندهم ساغ له التصريح به لقصد الوصول إلى الحقّ وهو لا يعتقده ، ولا يزيد قوله هذا قومه كفرا ، كالذي يكره على أن يقول كلمة الكفر وقلبه مطمئنّ بالإيمان فإنّه إذا جاز ذلك لحفظ نفس واحدة وإنقاذها من الهلاك كان جوازه لإنقاذ فريق من النّاس من الهلاك في الدنيا والآخرة أولى. وقد يكون فعل ذلك بإذن من الله تعالى بالوحي.
وعلى هذا فالآية تقتضي أنّ قومه يعبدون الكواكب وأنّهم على دين الصابئة وقد كان ذلك الدين شائعا في بلدان الكلدان التي نشأ فيها إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وأنّ الأصنام التي كانوا يعبدونها أرادوا بها أنّها صور للكواكب وتماثيل لها على حسب تخيّلاتهم