ويشمل هداهم ما كان منه راجعا إلى أصول الشّرائع ، وما كان منه راجعا إلى زكاء النّفس وحسن الخلق. وأمّا ما كان منه تفاريع عن ذلك وأحكاما جزئيّة من كلّ ما أبلغه الله إيّاه بالوحي ولم يأمره باتّباعه في الإسلام ولا بيّن له نسخه ، فقد اختلف علماؤنا في أنّ الشّرائع الإلهيّة السّابقة هل تعتبر أحكامها من شريعة الإسلام إذا أبلغها الله إلى الرّسول صلىاللهعليهوسلم ولم يجعل في شريعته ما ينسخها.
وأرى أنّ أصل الاستدلال لهذا أنّ الله تعالى إذا ذكر في كتابه أو أوحى إلى رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ حكاية حكم من الشرائع السابقة في مقام التّنويه بذلك والامتنان ولم يقارنه ما يدلّ على أنّه شرع للتّشديد على أصحابه عقوبة لهم ، ولا ما يدلّ على عدم العمل به ، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ الله تعالى يريد من المسلمين العمل بمثله إذا لم يكن من أحكام الإسلام ما يخالفه ولا من أصوله ما يأباه ، مثل أصل التّيسير ولا يقتضي القياس على حكم إسلامي ما يناقض حكما من شرائع من قبلنا. ولا حجّة في الآيات الّتي فيها أمر النّبيءصلىاللهعليهوسلم باتّباع من قبله مثل هذه الآية ، ومثل قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣] ومثل قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) [الشورى : ١٣] ، لأنّ المقصود من ذلك أصول الدّيانة وأسس التّشريع الّتي لا تختلف فيها الشّرائع ، فمن استدلّ بقوله تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فاستدلاله ضعيف. قال الغزالي في «المستصفى» «أراد بالهدى التّوحيد ودلالة الأدلّة العقليّة على الوحدانيّة والصّفات لأنّه تعالى أمره بالاقتداء بهداهم فلو كان المراد بالهدى شرائعهم لكان أمرا بشرائع مختلفة وناسخة ومنسوخة فدلّ أنّه أراد الهدى المشترك بين جميعهم» ا ه. ومعنى هذا أنّ الآية لا تقوم حجّة على المخالف فلا مانع من أن يكون فيها استئناس لمن رأى حجّيّة شرع من قبلنا على الصّفات الّتي ذكرتها آنفا. وفي «صحيح البخاري» في تفسير سورة (ص) عن العوّام قال : سألت مجاهدا عن سجدة ص فقال : سألت ابن عبّاس من أين سجدت (أي من أيّ دليل أخذت أن تسجد في هذه الآية ، يريد أنّها حكاية عن سجود داود وليس فيها صيغة أمر بالسجود) فقال : «أو ما تقرأ (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فكان داود ممّن أمر نبيئكم أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها رسول الله».
والمذاهب في هذه المسألة أربعة : المذهب الأوّل : مذهب مالك فيما حكاه ابن بكير وعبد الوهّاب والقرافي ونسبوه إلى أكثر أصحاب مالك : أنّ شرائع من قبلنا تكون