الأرض وقت نزول الآية ، وليس للمسلمين يومئذ تمكين. والالتفات هنا عكس الالتفات في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ). والمعنى أنّ الأمم الخالية من العرب البائدة كانوا أشدّ قوة وأكثر جمعا من العرب المخاطبين بالقرآن وأعظم منهم آثار حضارة وسطوة. وحسبك أنّ العرب كانوا يضربون الأمثال للأمور العظيمة بأنّها عادية أو ثمودية أو سبئية قال تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي عمر الذين من قبل أهل العصر الأرض أكثر ممّا عمرها أهل العصر.
والسماء من أسماء المطر ، كما في حديث «الموطأ» من قول زيد بن خالد : صلّى لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على إثر سماء ، أي عقب مطر. وهو المراد هنا لأنّه المناسب لقوله : (أَرْسَلْنَا) بخلافه في نحو قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً). والمدرار صيغة مبالغة ، مثل منحار لكثير النحر للأضياف ، ومذكار لمن يولد له الذكور ، من درّت الناقة ودرّ الضرع إذا سمح ضرعها باللبن ، ولذلك سمّي اللبن الدّر. ووصف المطر بالمدرار مجاز عقلي ، وإنّما المدرار سحابه. وهذه الصيغة يستوي فيها المذكّر والمؤنّث.
والمراد إرسال المطر في أوقات الحاجة إليه بحيث كان لا يخلفهم في مواسم نزوله. ومن لوازم ذلك كثرة الأنهار والأودية بكثرة انفجار العيون من سعة ري طبقات الأرض ، وقد كانت حالة معظم بلاد العرب في هذا الخصب والسعة ، كما علمه الله ودلّت عليه آثار مصانعهم وسدودهم ونسلان الأمم إليها ، ثم تغيّرت الأحوال بحوادث سماوية كالجدب الذي حلّ سنين ببلاد عاد ، أو أرضية ، فصار معظمها قاحلا فهلكت أممها وتفرّقوا أيادي سبا.
وقد تقدّم القول في معنى الأنهار تجري من تحتهم في نظيره وهو (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في سورة البقرة [ ].
والفاء في قوله : (فَأَهْلَكْناهُمْ) للتعقيب عطف على (مَكَّنَّاهُمْ) وما بعده. ولمّا تعلّق بقوله : (فَأَهْلَكْناهُمْ) قوله : (بِذُنُوبِهِمْ) دلّ على أنّ تعقيب التمكين وما معه بالإهلاك وقع بعد أن أذنبوا. فالتقدير : فأذنبوا فأهلكناهم بذنوبهم ، أو فبطروا النعمة فأهلكناهم ، ففيه إيجاز حذف على حدّ قوله تعالى : أن (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) الآية ، أي فضرب فانفجرت إلخ. ولك أن تجعل الفاء للتفصيل تفصيلا ل (أَهْلَكْنا) الأول على نحو قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) في سورة الأعراف[ ].
والإهلاك : الإفناء ، وهو عقاب للأمّة دالّ على غضب الله عليها ، لأنّ فناء الأمم لا