ثمّ على هذا القول تكون قراءة : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) بالفوقيّة جارية على الظاهر ، وقراءته بالتّحتيّة من قبيل الالتفات. ونكتته أنّهم لمّا أخبر عنهم بهذا الفعل الشّنيع جعلوا كالغائبين عن مقام الخطاب.
والمخاطب بقوله : (وَعُلِّمْتُمْ) على هذا الوجه هم اليهود ، فتكون الجملة حالا من ضمير (تَجْعَلُونَهُ) ، أي تجعلونه قراطيس تخفون بعضها في حال أنّ الله علّمكم على لسان محمّد ما لم تكونوا تعلمون ، ويكون ذلك من تمام الكلام المعترض به.
ويجيء على قراءة يجعلونه قراطيس ـ بالتّحتيّة ـ أن يكون الرّجوع إلى الخطاب بعد الغيبة التفاتا أيضا. وحسّنه أنّه لمّا أخبر عنهم بشيء حسن عاد إلى مقام الخطاب ، أو لأنّ مقام الخطاب أنسب بالامتنان.
واعلم أنّ نظم الآية صالح للردّ على كلا الفريقين مراعاة لمقتضى الروايتين. فعلى الرّواية الأولى فواو الجماعة في «قدروا ـ وقالوا» عائدة إلى ما عاد إليه إشارة هؤلاء ، وعلى الرّواية الثّانية فالواو واو الجماعة مستعملة في واحد معيّن على طريقة التّعريض بشخص من باب «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله» ، وذلك من قبيل عود الضّمير على غير مذكور اعتمادا على أنّه مستحضر في ذهن السامع.
وقوله : (قُلِ اللهُ) جواب الاستفهام التّقريري. وقد تولّى السائل الجواب لنفسه بنفسه لأنّ المسئول لا يسعه إلّا أن يجيب بذلك لأنّه لا يقدر أن يكابر ، على ما قرّرته في تفسير قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) في هذه السّورة [١٢].
والمعنى قل الله أنزل الكتاب على موسى. وإذا كان (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا) معطوفا على جملة (أَنْزَلَ) كان الجواب شاملا له ، أي الله علّمكم ما لم تعلموا فيكون جوابا عن الفعل المسند إلى المجهول بفعل مسند إلى المعلوم على حدّ قول ضرار بن نهشل أو الحارث النهشلي يرثي أخاه يزيد :
ليبك يزيد ضارع لخصومة |
|
ومختبط ممّا تطيح الطّوائح |
كأنّه سئل من يبكيه فقال : ضارع.
وعطف (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) بثمّ للدّلالة على التّرتيب الرتبي ، أي أنّهم لا تنجع فيهم الحجج والأدلّة فتركهم وخوضهم بعد التّبليغ هو الأولى ولكن الاحتجاج عليهم لتبكيتهم وقطع معاذيرهم.