الواحد فيقع بعضها في يد بعض المسلمين فيظنّ أنّ ذلك الجزء هو القرآن كلّه ، ومعنى قول مالك : وقد جمعه الله ، أنّ الله أمر رسوله صلىاللهعليهوسلم بجمعه بعد أن نزل منجّما ، فدلّ ذلك على أنّ الله أراد جمعه فلا يفرّق أجزاء. وقد أجاز فقهاء المذهب تجزئة القرآن للتعلّم ومسّ جزئه على غير وضوء ، ومنه كتابته في الألواح.
وقوله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا) في موضع الحال من كلام مقدّر دلّ عليه قوّة الاستفهام لأنّه في قوّة أخبروني ، فإنّ الاستفهام يتضمّن معنى الفعل.
ووقوع الاستفهام بالاسم الدّال على طلب تعيين فاعل الإنزال يقوّي معنى الفعل في الاستفهام إذ تضمّن اسم الاستفهام فعلا وفاعلا مستفهما عنهما ، أي أخبروني عن ذلك وقد علّمكم الله بالقرآن الّذي أنكرتم كونه من عند الله ، احتججتم على إنكار ذلك بنفي أن ينزل الله على بشر شيئا ، ولو أنصفتم لوجدتم وإمارة نزوله من عند الله ثابتة فيه غير محتاج معها للاستدلال عليه. وهذا الخطاب أشدّ انطباقا على المشركين لأنّهم لم يكونوا عالمين بأخبار الأنبياء وأحوال التّشريع ونظامه فلمّا جاءهم محمّد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ علم ذلك من آمن علما راسخا ، وعلم ذلك من بقي على كفره بما يحصل لهم من سماع القرآن عند الدّعوة ومن مخالطيهم من المسلمين ، وقد وصفهم الله بمثل هذا في آيات أخرى ، كقوله تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩].
ويجوز أن تكون جملة : (وَعُلِّمْتُمْ) عطفا على جملة : (أَنْزَلَ الْكِتابَ) على اعتبار المعنى كأنّه قيل : وعلّمكم ما لم تعلموا. ووجه بناء فعل (عُلِّمْتُمْ) للمجهول ظهور الفاعل ، ولأنّه سيقول (قُلِ اللهُ).
فإذا تأوّلنا الآية بما روي من قصّة مالك بن الصّيف المتقدّمة فالاستفهام بقوله (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ) تقريري ، إمّا لإبطال ظاهر كلامهم من جحد تنزيل كتاب على بشر ، على طريقة إفحام المناظر بإبداء ما في كلامه من لوازم الفساد ، مثل فساد اطّراد التّعريف أو انعكاسه ، وإمّا لإبطال مقصودهم من إنكار رسالة محمّد صلىاللهعليهوسلم بطريقة الإلزام لأنّهم أظهروا أنّ رسالة محمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ كالشيء المحال فقيل لهم على سبيل التّقرير (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) ولا يسعهم إلّا أن يقولوا : الله ، فإذا اعترفوا بذلك فالّذي أنزل على موسى كتابا لم لا ينزل على محمّد مثله ، كما قال تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٥٤] الآية.