عقولهم إذ يجعلون لله شركاء من مخلوقاته لأنّ المشركين يعترفون بأنّ الله هو خالق الجنّ ، فهذا التّقديم جرى على خلاف مقتضى الظّاهر لأجل ما اقتضى خلافه. وكلام «الكشاف» يجعل تقديم المجرور في الآية للاهتمام باعتقادهم الشّريك لله اهتماما في مقامه وهو الاستفظاع والإنكار التّوبيخي. وتبعه في «المفتاح» إذ قال في تقديم بعض المعمولات على بعض «للعناية بتقديمه لكونه نصب عينك كما تجدك إذا قال لك أحد : عرفت شركاء لله ، يقف شعرك وتقول : لله شركاء. وعليه قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) ا ه. فيكون تقديم المجرور جاريا على مقتضى الظّاهر.
والجنّ ـ بكسر الجيم ـ اسم لموجودات من المجرّدات الّتي لا أجسام لها ذات طبع ناري ، ولها آثار خاصّة في بعض تصرّفات تؤثّر في بعض الموجودات ما لا تؤثّره القوى العظيمة. وهي من جنس الشّياطين لا يدرى أمد وجود أفرادها ولا كيفيّة بقاء نوعها. وقد أثبتها القرآن على الإجمال ، وكان للعرب أحاديث في تخيّلها. فهم يتخيّلونها قادرة على التشكّل بأشكال الموجودات كلّها ويزعمون أنّها إذا مسّت الإنسان آذته وقتلته. وأنّها تختطف بعض النّاس في الفيافي ، وأنّ لها زجلا وأصواتا في الفيافي ، ويزعمون أنّ الصدى هو من الجنّ ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٧١] ، وأنّها قد تقول الشّعر ، وأنّها تظهر للكهان والشّعراء.
وجملة (وَخَلَقَهُمْ) في موضع الحال والواو للحال. والضّمير المنصوب في (خَلَقَهُمْ) يحتمل أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير (جَعَلُوا) ، أي وخلق المشركين ، وموقع هذه الحال التّعجيب من أن يجعلوا لله شركاء وهو خالقهم ، من قبيل (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] ، وعلى هذا تكون ضمائر الجمع متناسقة والتعجيب على هذا الوجه من جعلهم ذلك مع أنّ الله خالقهم في نفس الأمر فكيف لا ينظرون في أنّ مقتضى الخلق أن يفرد بالإلهيّة إذ لا وجه لدعواها لمن لا يخلق كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧] فالتّعجيب على هذا من جهلهم وسوء نظرهم. ويجوز أن يكون ضمير (وَخَلَقَهُمْ) عائدا إلى الجنّ لصحّة ذلك الضمير لهم باعتبار أنّ لهم عقلا ، وموقع الحال التّعجيب من ضلال المشركين أنّ يشركوا الله في العبادة بعض مخلوقاته مع علمهم بأنّهم مخلوقون لله تعالى ، فإنّ المشركين قالوا : إنّ الله خالق الجنّ ، كما تقدّم ، وأنّه لا خالق إلّا هو ، فالتّعجيب من مخالفتهم لمقتضى علمهم. فالتّقدير : وخلقهم كما في علمهم ، أي وخلقهم بلا نزاع. وهذا الوجه أظهر.