وهذا تلطّف مع الرّسول صلىاللهعليهوسلم وإزالة لما يلقاه من الكدر من استمرارهم على الشّرك وقلّة إغناء آيات القرآن ونذره في قلوبهم ، فذكّره الله بأنّ الله قادر على أن يحوّل قلوبهم فتقبل الإسلام بتكوين آخر ولكنّ الله أراد أن يحصل الإيمان ممّن يؤمن بالأسباب المعتادة في الإرشاد والاهتداء ليميز الله الخبيث من الطيّب وتظهر مراتب النّفوس في ميادين التلقّي ، فأراد الله أن تختلف النّفوس في الخير والشّر اختلافا ناشئا عن اختلاف كيفيّات الخلقة والخلق والنّشأة والقبول ، وعن مراتب اتّصال العباد بخالقهم ورجائهم منه. فالمشركون بلغوا إلى حضيض الشّرك بأسباب ووسائل متسلسلة مترتّبة خلقية ، وخلقيّة ، واجتماعيّة ، تهيأت في أزمنة وأحوال هيّأتها لهم ، فلمّا بعث الله إليهم المرشد كان إصغاؤهم إلى إرشاده متفاوتا على تفاوت صلابة عقولهم في الضّلال وعراقتهم فيه ، وعلى تفاوت إعداد نفوسهم للخير وجموحهم عنه ، ولم يجعل الله إيمان النّاس حاصلا بخوارق العادات ولا بتبديل خلق العقول ، وهذا هو القانون في معنى مثل هذه الآية ، فهذا معنى انتفاء مشيئة الله في هذا المقام المراد به تطمين قلب الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وتذكيره بحقائق الأحوال وليس في مثل هذا عذر لهم ولا لأمثالهم من العصاة ، ولذلك ردّ الله عليهم الاعتذار بمثل هذا في قوله في الآية الآتية (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) [الأنعام : ١٤٨] الآية. وفي قوله : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الزخرف : ٢٠] في سورة الزخرف (١) ، لأنّ هذه حقيقة كاشفة عن الواقع لا تصلح عذرا لمن طلب منهم أن لا يكونوا في عداد الّذين لم يشإ الله أن يرشدهم ، قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة : ٤١].
ومفعول المشيئة محذوف دلّ عليه جواب (لو) على الطّريقة المعروفة. والتّقدير : ولو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا. وتقدّم عند قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) في هذه السّورة [٣٥].
وقوله : (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تذكير وتسلية ليزيح عنه كرب إعراضهم عن الإسلام لأنّ ما يحصل له من الكدر لإعراض قومه عن الإسلام يجعل في نفسه انكسارا كأنّه انكسار من عهد إليه بعمل فلم يتسنّ له ما يريده من حسن القيام ، فذكّره الله تعالى بأنّه قد أدّى الأمانة وبلّغ الرّسالة وأنّه لم يبعثه مكرها لهم ليأتي بهم مسلمين ، وإنّما بعثه مبلّغا
__________________
(١) في المطبوعة : (فصلت) وهو خطأ.