الآية. ويدفع الإشكال الثّاني أنّ المشركين قالوا لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا لنهجونّ إلهك ، ومعناه أنّهم ينكرون أنّ الله هو إلهه ولذلك أنكروا الرّحمن (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) [الفرقان : ٦٠]. فهم ينكرون أنّ الله أمره بذمّ آلهتهم لأنّهم يزعمون أنّ آلهتهم مقرّبون عند الله ، وإنّما يزعمون أنّ شيطانا يأمر النّبيء صلىاللهعليهوسلم بسبّ الأصنام ، ألا ترى إلى قول امرأة منهم لمّا فتر الوحي في ابتداء البعثة : ما أرى شيطانه إلّا ودّعه ، وكان ذلك سبب نزول سورة الضّحى.
وجواب الفخر عنه بأنّ بعضهم كان لا يثبت وجود الله وهم الدهريون ، أو أنّ المراد أنّهم يشتمون الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فأجرى الله شتم الرّسول مجرى شتم الله كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠]» ا ه. فإنّ في هذا التّأويل بعدا لا داعي إليه.
والوجه في تفسير الآية أنّه ليس المراد بالسبّ المنهي عنه فيها ما جاء في القرآن من إثبات نقائص آلهتهم ممّا يدلّ على انتفاء إلهيتها ، كقوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) في سورة الأعراف [١٧٩]. وأمّا ما عداه من نحو قوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) [الأعراف : ١٩٥] فليس من الشّتم ولا من السبّ لأنّ ذلك من طريق الاحتجاج وليس تصدّيا للشّتم ، فالمراد في الآية ما يصدر من بعض المسلمين من كلمات الذمّ والتّعبير لآلهة المشركين ، كما روي في «السيرة» أنّ عروة بن مسعود الثّقفي جاء رسولا من أهل مكّة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الحديبيّة فكان من جملة ما قاله : «وأيم الله لكأنّي بهؤلاء (يعني المسلمين) قد انكشفوا عنك» ، وكان أبو بكر الصدّيق حاضرا ، فقال له أبو بكر «امصص بظر اللّات» إلى آخر الخبر.
ووجه النّهي عن سبّ أصنامهم هو أنّ السبّ لا تترتّب عليه مصلحة دينيّة لأنّ المقصود من الدّعوة هو الاستدلال على إبطال الشّرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله تعالى ، فذلك هو الّذي يتميّز به الحقّ عن الباطل ، وينهض به المحقّ ولا يستطيعه المبطل ، فأمّا السبّ فإنّه مقدور للمحقّ وللمبطل فيظهر بمظهر التّساوي بينهما. وربّما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحقّ ، فيلوح للنّاس أنّه تغلّب على المحقّ. على أنّ سبّ آلهتهم لمّا كان يحمي غيظهم ويزيد تصلّبهم قد عاد منافيا لمراد الله من الدّعوة ، فقد قال لرسوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «وجادلهم بالّتي هي أحسن» ، وقال لموسى وهارون ـ عليهماالسلام ـ (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) ، فصار السبّ عائقا من المقصود