من البعثة ، فتمحّض هذا السبّ للمفسدة ولم يكن مشوبا بمصلحة. وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إفضاؤه إلى مفسدة لأنّ تغيير المنكر مصلحة بالذّات وإفضاؤه إلى المفسدة بالعرض. وذلك مجال تتردّد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوّة وضعفا ، وتحقّقا واحتمالا. وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلّها.
وحكم هذه الآية محكم غير منسوخ. قال القرطبي : قال العلماء : حكمها باق في هذه الأمّة على كلّ حال ، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أنّه إن سبّ المسلمون أصنامه أو أمور شريعته أن يسبّ هو الإسلام أو النّبيء ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أو الله عزوجل لم يحلّ للمسلم أن يسبّ صلبانهم ولا كنائسهم لأنّه بمنزلة البعث على المعصية ا ه ، أي على زيادة الكفر. وليس من السبّ إبطال ما يخالف الإسلام من عقائدهم في مقام المجادلة ولكنّ السبّ أن نباشرهم في غير مقام المناظرة بذلك ، ونظير هذا ما قاله علماؤنا فيما يصدر من أهل الذّمة من سبّ الله تعالى أو سبّ النّبيء صلىاللهعليهوسلم بأنّهم إن صدر منهم ما هو من أصول كفرهم فلا يعدّ سبّا وإن تجاوزوا ذلك عدّ سبّا ، ويعبّر عنها الفقهاء بقولهم : «ما به كفر وغير ما به كفر».
وقد احتجّ علماؤنا بهذه الآية على إثبات أصل من أصول الفقه عند المالكيّة ، وهو الملقّب بمسألة سدّ الذّرائع. قال ابن العربي : «منع الله في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدّي إلى محظور ولأجل هذا تعلّق علماؤنا بهذه الآية في سدّ الذّرائع وهو كلّ عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصّل به إلى محظور». وقال في تفسير سورة الأعراف [١٦٣] عند قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) : قال علماؤنا : هذه الآية أصل من أصول إثبات الذّرائع الّتي انفرد بها مالك ـ رضياللهعنه ـ وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته وخفيت على الشّافعي وأبي حنيفة ـ رضياللهعنهما ـ مع تبحّرهما في الشّريعة ، وهو كلّ عمل ظاهر الجواز يتوصّل به إلى محظور ا ه. وفسّر المازري في باب بيوع الآجال من «شرحه للتّلقين» سدّ الذّريعة بأنّه منع ما يجوز لئلّا يتطرّق به إلى ما لا يجوز ا ه. والمراد : سدّ ذرائع الفساد ، كما أفصح عنه القرافي في «تنقيح الفصول» وفي «الفرق الثّامن والخمسين» فقال : الذّريعة : الوسيلة إلى الشّيء. ومعنى سدّ الذّرائع حسم مادّة وسائل الفساد.
وأجمعت الأمّة على أنّ الذّرائع ثلاثة أقسام : أحدها : معتبر إجماعا كحفر الآبار في