مَلَكٌ) أنّهم كانوا في قولهم ذلك قاصدين التعجيز والاستهزاء معا ، لأنّهم ما قالوه ألّا عن يقين منهم أنّ ذلك لا يكون ، فابتدئ الردّ عليهم بإبطال ظاهر كلامهم بقوله : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ). ثم ثنّى بتهديدهم على ما أرادوه من الاستهزاء ، والمقصود مع ذلك تهديدهم بأنّهم سيحيق بهم العذاب وأنّ ذلك سنة الله في كلّ أمّة استهزأت برسول له.
فقوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) يدلّ على جملة مطوية إيجازا ، تقديرها : واستهزءوا بك ولقد استهزأ أمم برسل من قبلك ، لأنّ قوله من (قَبْلِكَ) ، لأنّ قوله من (قَبْلِكَ) يؤذن بأنّه قد استهزئ به هو أيضا وإلّا لم تكن فائدة في وصف الرسل بأنّهم من قبله لأنّ ذلك معلوم. وحذف فاعل الاستهزاء فبنى الفعل إلى المجهول لأنّ المقصود هنا هو ترتّب أثر الاستهزاء لا تعيين المستهزئين.
واللام للقسم ، وقد للتحقيق ، وكلاهما يدلّ على تأكيد الخبر. والمقصود تأكيده باعتبار ما تفرّع عنه ، وهو قوله : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا) إلخ ، لأنّ حال المشركين حال من يتردّد في أنّ سبب هلاك الأمم السالفة هو الاستهزاء بالرسل ، إذ لو لا تردّدهم في ذلك لأخذوا الحيطة لأنفسهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام ، الذي جاءهم فنظروا في دلائل صدقه وما أعرضوا ، ليستبرءوا لأنفسهم من عذاب متوقّع ، أو نزّلوا منزلة المتردّد إن كانوا يعلمون ذلك لعدم جريهم على موجب علمهم. واستهزاؤهم له أفانين ، منها قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ).
ومعنى الاستهزاء تقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) في سورة البقرة. وهو مرادف للسخرية في كلام أئمّة اللغة ، فذكر (اسْتُهْزِئَ) أولا لأنّه أشهر ، ولمّا أعيد عبّر ب (سَخِرُوا) ، ولمّا أعيد ثالث مرّة رجع إلى فعل (يَسْتَهْزِؤُنَ) ، لأنّه أخفّ من (يسخرون). وهذا من بديع فصاحة القرآن المعجزة.
و (سَخِرُوا) بمعنى هزءوا ، ويتعدّى إلى المفعول ب (مِنْ) ، قيل : لا يتعدّى بغيرها. وقيل : يتعدّى بالباء. وكذا الخلاف في تعدية هزأ واستهزأ. والأصحّ أنّ كلا الفعلين يتعدّى بحرف (من) والباء ، وأنّ الغالب في (هزأ) أن يتعدّى بالباء ، وفي سخر أن يتعدّى بمن. وأصل مادّة سخر مؤذن بأنّ الفاعل اتّخذ المفعول مسخّرا يتصرف فيه كيف شاء بدون حرمة لشدّة قرب مادّة سخر المخفّف من مادّة التسخير ، أي التطويع فكأنّه حوّله عن حقّ الحرمة الذاتية فاتّخذ منه لنفسه سخرية.
وفعل (فَحاقَ) اختلف أئمّة اللغة في معناه. فقال الزجّاج : هو بمعنى أحاط ، وتبعه