السائل جوابهم وبادرهم الجواب عنه بنفسه بقوله : (لِلَّهِ) تبكيتا لهم ، لأنّ الكلام مسوق مساق إبلاغ الحجّة مقدّرة فيه محاورة وليس هو محاورة حقيقية. وهذا من أسلوب الكلام الصادر من متكلّم واحد. فهؤلاء القوم المقدّر إلجاؤهم إلى الجواب سواء أنصفوا فأقرّوا حقّيّة الجواب أم أنكروا وكابروا فقد حصل المقصود من دمغهم بالحجّة. وهذا أسلوب متّبع في القرآن ، فتارة لا يذكر جواب منهم كما هنا ، وكما في قوله تعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) [الرعد : ١٦] ، وقوله : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى ـ إلى قوله ـ قُلِ اللهُ) [الأنعام : ٩١] ، وتارة يذكر ما سيجيبون به بعد ذكر السؤال منسوبا إليهم أنّهم يجيبون به ثم ينتقل إلى ما يترتّب عليه من توبيخ ونحوه ، كقوله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ـ إلى قوله ـ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) [المؤمنون : ٨٤ ـ ٨٩].
وابتدئ بإبطال أعظم ضلالهم. وهو ضلال الإشراك. وأدمج معه ضلال إنكارهم البعث المبتدأ به السورة بعد أن انتقل من ذلك إلى الإنذار الناشئ عن تكذيبهم الرسولصلىاللهعليهوسلم ، ولذلك لمّا كان دليل الوحدانية السالف دالا على خلق السماوات والأرض وأحوالها بالصراحة ، وعلى عبودية الموجودات التي تشملها بالالتزام ، ذكر في هذه الآية تلك العبودية بالصراحة فقال : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ).
وقوله : (لِلَّهِ) خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه (ما فِي السَّماواتِ). إلخ. ويقدّر المبتدأ مؤخّرا عن الخبر على وزان السؤال لأنّ المقصود إفادة الحصر.
واللام في قوله : (لِلَّهِ) للملك ؛ دلّت على عبودية الناس لله دون غيره ، وتستلزم أنّ العبد صائر إلى مالكه لا محالة ، وفي ذلك تقرير لدليل البعث السابق المبني على إثبات العبودية بحقّ الخلق. ولا سبب للعبوديّة أحقّ وأعظم من الخالقية ، ويستتبع هذا الاستدلال الإنذار بغضبه على من أشرك معه.
وهذا استدلال على المشركين بأنّ غير الله ليس أهلا للإلهيّة ، لأنّ غير الله لا يملك ما في السماوات وما في الأرض إذ ملك ذلك لخالق ذلك. وهو تمهيد لقوله بعده (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، لأنّ مالك الأشياء لا يهمل محاسبتها.
وجملة : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) معترضة ، وهي من المقول الذي أمر الرسول بأن يقوله. وفي هذا الاعتراض معان :