أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ٢٠].
والضمير المجرور بمن التبعيضية عائد إلى المشركين الذين الحديث معهم وعنهم ابتداء من قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] ، أي ومن المشركين من يستمع إليك. وقد انتقل الكلام إلى أحوال خاصّة عقلائهم الذين يربئون بأنفسهم عن أن يقابلوا دعوة الرسول صلىاللهعليهوسلم بمثل ما يقابله به سفهاؤهم من الإعراض التامّ ، وقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥]. ولكن هؤلاء العقلاء يتظاهرون بالحلم والأناة والإنصاف ويخيّلون للدهماء أنّهم قادرون على مجادلة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإبطال حججه ثم ينهون الناس عن الإيمان. روى الواحدي عن ابن عبّاس أنّه سمّى من هؤلاء أبا سفيان بن حرب ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبا جهل ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وأمية وأبيّا ابني خلف ، اجتمعوا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم يستمعون القرآن فلمّا سمعوه قالوا للنضر : ما يقول محمد فقال : والذي جعلها بيته (يعني الكعبة) ما أدري ما يقول إلّا أنّي أرى تحرّك شفتيه فما يقول إلّا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية. يعني أنّه قال ذلك مكابرة منه للحقّ وحسدا للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى. وكان يحدّث قريشا عن أقاصيص العجم ، مثل قصة (رستم) و (إسفنديار) فيستملحون حديثه ، وكان صاحب أسفار إلى بلاد الفرس ، وكان النضر شديد البغضاء للرسول صلىاللهعليهوسلم وهو الذي أهدر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ دمه فقتل يوم فتح مكّة. وروي أنّ أبا سفيان قال لهم : إنّي لأراه حقّا. فقال له أبو جهل : كلّا. فوصف الله حالهم بهذه الآية. وقد نفع الله أبا سفيان بن حرب بكلمته هذه ، فأسلم هو دونهم ليلة فتح مكّة وثبتت له فضيلة الصحبة وصهر النبي صلىاللهعليهوسلم ولزوجه هند بنت عتبة بن ربيعة.
والأكنة جمع كنان ـ بكسر الكاف ـ و (أفعلة) يتعيّن في (فعال) المكسور الفاء إذا كان عينه ولامه مثلين. والكنان : الغطاء ، لأنّه يكنّ الشيء ، أي يستره. وهي هنا تخييل لأنّه شبّهت قلوبهم في عدم خلوص الحقّ إليها بأشياء محجوبة عن شيء. وأثبتت لها الأكنّة تخييلا ، وليس في قلب أحدهم شيء يشبه الكنان.
وأسند جعل تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى لأنّه خلقهم على هذه الخصلة الذميمة والتعقّل المنحرف ، فهم لهم عقول وإدراك لأنّهم كسائر البشر ، ولكن أهواءهم تخيّر لهم المنع من اتّباع الحقّ ، فلذلك كانوا مخاطبين بالإيمان مع أنّ الله يعلم أنّهم لا