وبعد بيان تبدل نظام العالم ، والإخبار عن وقوع الحشر والنشر ، وبّخ الله تعالى الإنسان على تقصيره في عمل الخير ، وجحوده النعم ، بأن لم يطع أوامر الله شكرا على النعمة ، فقال :
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) أي يا أيها الإنسان المدرك نهاية العالم ما الذي خدعك وجرأك على عصيان ربّك الكريم الذي أنعم عليك في الدنيا ، حيث خلقك من نطفة بعد العدم ، وجعلك سويا مستقيما ، معتدل القامة في أحسن هيئة وشكل ، متناسب الأعضاء ، لا تفاوت فيها ، مزوّدا بالحواس من السمع والبصر ، وطاقة العقل والفهم.
والأصح أن الآية تتناول جميع العصاة ؛ لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت الآية من أجله.
وقد وصف الله تعالى نفسه في هذا المقام بالكرم ، وهذا الوصف يقتضي الاغترار به ، حتى قالت العقلاء : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه. فكان الكرم سبب الاغترار ، وإنما وقع الإنكار عليه ؛ لأن الإنسان لم يدرك أن كرمه صادر عن الحكمة ، وهي تقتضي ألا يهمل وإن أمهل ، وأن ينتقم للمظلوم من الظالم ولو بعد حين ، وقيل : غرّه ، جهله ، وقيل: غرّه عدوه المسلّط عليه ، وهو الشيطان ، وقيل : غرّه عفو الله إذ لم يعاجله بالعقوبة أول مرة.
(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي ركّبك في أي صورة شاءها من أبهى الصور وأجملها ، وأنت لم تختر صورة نفسك ، كما قال : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين ٩٥ / ٤].