القرآن لم يتقبله إلّا الذين أغلقوا عقولهم عن التفكير انطلاقا من قداسة لا قداسة لها ، أو من رواية لا أساس لها ، أو من غفلة مطبقة لا يقظة بها ... أمّا المفكرون الذين يحلّلون الفكرة والكلمة والأسلوب فإنهم يكتشفون الزيف بعقولهم من أقرب طريق ، لأن الفكر يقود إلى النور الذي يفضح كل ضباب الشك والوهم المتحرك في العيون والأفئدة والأعماق ...
... وتتحرك الآية في رصدها للظاهرة ، وفي تأكيدها على زيف مضمونها ؛ فتكرر الفكرة بأسلوب آخر : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وتنفي ما قالوه بتأكيد : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ). ويتحوّل التأكيد إلى مهاجمة للشخصية الكاذبة التي تختبئ خلف قناع من الصدق : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). ولا شيء أعظم خطرا من الكذب على الله ، لأنه يجعل الحياة السائرة في طريقة تحت رحمة المفاهيم المزيّفة المنحرفة المتحركة في مسيرة البسطاء باسم الله وأنبيائه ورسله.
* * *
التحريف في آفاق المعنى
وقد ذهب بعض المفسرين إلى تفسير الآية بوجه آخر ، فاعتبر التحريف الذي تشير إليه الآية ، تحريفا في المعنى والتفسير وإعطاء اللفظ معنى غير المعنى المراد. ولكن هذا غير ظاهر من اللفظ ، وإن كان الوجه صحيحا في نفسه ، فإن التحريف في التفسير وإبعاد الكلمة عن معناها وصرفها عن وجهها ، لا يقلّ خطورة عن التحريف في الكلمة ذاتها ، بالنظر إلى وحدة النتيجة في ما يريده الله سبحانه من وضع الكلمة في موضعها ، من حيث اللفظ والمعنى ، من أجل أن يصل الإنسان إلى وعي الحقيقة الدينية التي أوحى بها الله إلى رسله ، في صفاء ونقاء ، وليرتبط بها من منطق الصدق والواقع ، لا من موقع الكذب والباطل ...