إنّ استكشاف العقل للمصالح والمفاسد إنّما يقع ذريعة للتشريع إذا كان المورد من موارد «منطقة الفراغ» أي لم يكن للشارع هناك حكم بالإلزام بالفعل أو الترك ، وأمّا إذا كان هناك حكم شرعي قطعي فلا يصح للمستنبط تغيير الحكم بالمصالح والمفاسد المزعومة ، فإنّه يكون من قبيل تقديم المصلحة على النص ، وهو أمر غير جائز ، وقد عرفت في صدر البحث انّ تأثير الزمان والمكان إنّما هو في الأحكام الاجتهادية دون الأحكام المنصوصة.
والحاصل انّه إذا كان هناك نص من الشارع ولم يكن الموضوع ضمن (منطقة الفراغ) فلا معنى لتقديم المصلحة على النص ، فانّه تشريع محرّم يتّخذ ذريعة للتخلص من الالتزام بالأحكام الشرعية.
وبذلك يعلم أنّ ما صدر من بعض السلف في بعض الموارد من تقديم المصالح على النصوص قد جانب الصواب بلا شكّ كالمثال التالي :
دلّ الكتاب والسنّة على بطلان الطلاق ثلاثا ، من دون أن يتخلّل بينها رجوع أو نكاح ، فلو طلّق ثلاثا مرّة واحدة أو كرّر الصيغة فلا يحتسب إلّا طلاقا واحدا. وقد جرى عليه رسول الله والخليفة الأوّل وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يمضي من الطلقات الثلاث إلّا واحدة منها ، وكان الأمر على هذا المنوال إلى سنتين من خلافة الخليفة الثاني ، وسرعان ما عدل عن ذلك قائلا : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم. (١)
__________________
(١) صحيح مسلم : ٤ / ١٨٣ ، باب الطلاق الثلاث ، الحديث ١.