ومثل أنّه يمكن أن يكون حقيقة واحدة باعتبار وجود واحد ، أي وجودها في النفس من حيث وجودها فيها عرضا ، وباعتبار وجود آخر ، أي وجودها في الخارج جوهرا ، كذلك يجوز أن يكون المعصية والطاعة اللتان هما حقيقتان كليّتان تظهران في العالم الحسيّ بالصور العمليّة التي هي أعراض قائمة بالجواهر ، وفي عالم البرزخ بملابسها البرزخيّة المعنويّة وصورها المثاليّة التي هي جواهر ، وفي عالم الآخرة بملابسها الأخرويّة التي هي كالصور المعنويّة أيضا ، بل كالملابس العقليّة ، وهي جواهر أيضا فتصيران جنّة ونارا مثاليّتين أو عقليّتين.
وبالجملة ، فتجسيم الأعمال والصفات كما هو ظاهر الآيات والأخبار الدّالّة عليه ، ممّا لا مانع عنه عند العقل ولا امتناع فيه ، وفيما ذكرنا غنية للطالب المستبصر المسترشد ، في أن يؤمن بجميع ما نطق به الشّرع ووعده الشّارع أو أوعده ، فإنّه لو تأمّل في ذلك ، وكذا في أنّ ما يشاهد من الصفات النفسانيّة كيف تصير منشئا للآثار والأفعال الظاهرة ، كفاه ذلك ذريعة إلى الاطمينان بكيفيّة استتباع بعض الأعمال والصفات للآثار المخصوصة في النشأة البرزخيّة وفي عالم الآخرة ، ألا ترى أنّ شدّة الغضب ـ مثلا ـ في شخص يوجب ثوران دمه واحمرار وجهه وتسخّن بدنه واحتراق موادّه ، والحال أنّ الغضب صفة نفسانيّة موجودة في عالم باطنه ، وهذه الآثار من صفات الأجسام المادّيّة ، وقد صارت نتائج منها في هذا العالم ، فلا عجب من أن يلزمها في النشأة البرزخيّة آثار أخرى أحرّ من الأولى ، وفي النشأة الأخرويّة نار أحرّ من الأولى والثانيّة جميعا وهي (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (١). وأحرقت صاحبها ، كما يلزمها في العالم الدنيويّ عند ظهورها ضربان العروق والأوداج واضطراب الأعضاء ، وربّما يؤدي إلى الأمراض الشديدة ، وربّما يموت صاحبها غيظا. (٢)
وإذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّ الشرع كما نطق بتجسيم الأعمال والصفات والملكات ، كذلك قد نطق بوقوع ثواب وعقاب جسمانيّين واردين على بدن المحسن
__________________
(١) الهمزة (١٠٤) : ٦ ـ ٧.
(٢) راجع الشواهد الربوبية / ٣٢٩ ـ ٣٣٠.