مجرّدة أيضا نوع تجرّد مدركة لذلك ، وإن كان تجرّدها أدون من تجرّد النفس الإنسانيّة بمراتب كثيرة كما عرفت فيما سبق أنّ بعضا من الدلائل التي أقامها القوم على التجرّد مشترك بين الإنسان وسائر الحيوانات ، وأنّه يظهر من بعضهم القول باختلاف مراتب التجرّد ، وأن أدناها موجود لتلك النّفوس الحيوانيّة ، أو بأن لا تكون لها نفس مجرّدة أصلا ، لكن كانت الرّوح الحيوانيّة التي تكون لكلّ حيوان مدركة لذلك. وعلى التّقديرين فإذا عصت تلك الحيوانات وآذت غيرها في النّشأة الدّنيويّة ، اقتضت الحكمة الإلهيّة أن تقع عليها مجازاة في النّشأة الأخرويّة ، فيؤخذ مثلا للجمّاء من القرناء.
وكيفما كان ، فإن قلنا بأن لها نفسا مجرّدة باقية بعد خراب أبدانها ، وكذا لأبدانها أجزاء أصليّة باقية ، فالكلام في معادها وحشرها كالكلام في معاد الإنسان وحشره سواء بسواء. وكذلك لو لم نقل بكون النفس المجرّدة الباقية لها ، وقلنا بكون الرّوح الحيوانيّة لها التي قلنا إنّها جسم لطيف رقيق يبقى بعد خراب البدن مع البدن مع بقاء الأجزاء الأصليّة من أبدانها ، فالأمر ظاهر أيضا ، إذ لا امتناع في أن يعود تعلّق تلك الرّوح الحيوانيّة مرّة أخرى بذلك البدن بعد جمع أجزائه على مثل هيئته الأولى ، ويعود ذلك الشخص الحيوانيّ كما كان ، ويكون عين الأوّل كما قلنا في الإنسان.
وعلى التقديرين ، فإن قلنا ببقاء تلك الحيوانات بعد عودها في دار الآخرة ، كما هو ظاهر إطلاق كلام بعض المفسّرين فلا كلام. وإن قلنا بفنائها كلّها بعد ذلك كما هو ظاهر ما نقله محيي السنّة عن أبي هريرة ، فلا إشكال ، إذ لا امتناع في أن ينقطع بمشيّة الله تعالى تعلّق نفوسها المجرّدة نوع تجرّد أو أرواحها الحيوانيّة عن أبدانها مرّة أخرى وتتلاشى أبدانها وتصير ترابا فتفنى بذلك تلك الأشخاص الحيوانيّة. وكذا لا امتناع في أن يكون الوجه في فنائها بعد ذلك انتفاء الحكمة في عودها.
والحاصل أنّه لمّا كانت الحكمة في عودها وقوع المجازاة عليها من جهة إيذاء بعضها لبعض مثلا ، وهي تكون في زمان ما ، فإذا وقعت المجازاة ، والحال أنّه ليس لتلك الحيوانات أفعال حسنة أو سيّئة تبقى هي بعد ذلك لأجل وقوع المجازاة عليها من هذه الجهة ، ووقوع الثّواب أو العقاب بسبب ذلك ، وقلنا إنّه ليس هنا مصلحة أخرى لبقائها ،