والاعتبار ، فيوجب انتقال الذهن من اللفظ إلى المعنى للعالم به ، ويقال حينئذ : بأنّ المستعلم قبل أن يعلم بهذا الجعل ، لا ينتقل ذهنه إلى هذا المعنى ، وبعد علمه به لا حاجة إلى علاميّة التبادر في المقام.
ولكن بناء على مبنانا في حقيقة الوضع لا يتأتى إشكال الدور أصلا ، لأننا قلنا في حقيقة الوضع : إنّه القرن الأكيد الشديد بين اللفظ والمعنى ، وحينئذ من الواضح أن القرن بنفسه يكون سببا في التبادر ، قبل أن يحصل العلم بالوضع ، ويمكن معرفة ذلك بالالتفات إلى الطفل حيث يحصل عنده التبادر من لفظ (حليب) إلى المعنى المخصوص ، مع أنّ الطفل لا علم له بالوضع.
ونقول : بأنّ العلم بالوضع يتوقف على أن يكون هناك انسباق وتبادر للمعنى من اللفظ. وأما التبادر لا يتوقف على العلم بالوضع ، بل على روح الوضع ، وهو القرن ، فلا أساس لإشكال الدور. وهذا كله فيما إذا فرض أن علامة التبادر لوحظت بالنسبة إلى الجاهل المستعلم.
وأما إذا قلنا : بأن التبادر عند العالم إمارة على الوضع عند الجاهل ، فهذا خارج عن محل الكلام ، وداخل في الإطراد ، فعلامة التبادر معقولة ، لكن ليس بالتقريب الابتدائي المذكور ، من أنّ التبادر والانسباق له علتان : إمّا الوضع ، وإما القرينة. فحيث لا قرينة يكشف التبادر كشفا إنّيا عن الوضع ، من باب كشف المعلول عن العلة ، بل الانسباق إلى ذهن المستعلم له ثلاث علل وتوضيح ذلك :
إن الوضع روحه القرن ، وهذا القرن على نحوين : شخصي ونوعي ، فتارة يكون القرن بين اللفظ والمعنى في ذهن زيد قرنا شخصيا لمناسبات شخصية ، وأخرى يكون قرنا نوعيا اجتماعيا بحيث يكون اللفظ مقرونا مع المعنى في ذهنه ، لا باعتبار خصوصية في زيد ، بل باعتبار أنه أحد أبناء اللغة والعرف. وهذا القرن النوعي هو ميزان الحجّية والفهم في مقام استخراج المعاني من الألفاظ.