اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))
قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) : لما لم يكن للكون استعداد حمل أمانة الربوبية بنعت الانفراد والفناء والسكر في العشق ، والخروج بنعت الألوهية أبى أن يحملها ؛ لأن سطوات الألوهية إذا بدت اضمحلت الأكوان والحدثان فيها ، وبقى آدم ؛ لأنه كان مستعدا لقبول ذلك ؛ لأنه كان مخلوقا بخلقه ، موصوفا بصفته ، مستحكما بتأييده الأزلية ، ومباشرة نور صفته الخاصة بقوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] قويا بقوة الروح القدسية التي بدت من ظهور نور الذات حين تجلى من القدم لآدم بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ، فإذا كان كذلك حمل أمانة الله بالله لا بالحدثان ، فإنه تعالى قائم بنفسه منزه عن مباشرة الحدوثية ، فقد حمل أنوار جميع الصفات والذات حيث صدر وجوده عن تجلي الذات والصفات ، فخرج موصوفا بالصفات منور بنور الذات ، وهذه بجميعها الأمانة ، ولا يكون لتلك الأمانة موضع إلا آدم ، ومن كان بوصفه من ذريته من الأولياء والأنبياء فإذا قابل القدم ، وقبل الأمانة فقد جهل بالقدم أصلا حيث قبل الكل بالبعض ، كذلك قال : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢) ؛ إذ وازى الأزل والأبد مع علة الحدوثية جهولا حيث لم يعلم أن حقيقة التوحيد بالحقيقة مزلة أقدام الموحدين ، وكيف يكون صفوان القدم موضع أقدام الحدث ، فمجاز الأمانة بعد ذلك المحبة والعشق والمعرفة وحقيقتها الأمانية (١).
قال ابن عطاء : الأمانة هي تحقيق التوحيد على سبيل التفريد.
قال الجنيد : إن الله لما عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبوا حملها وعرض على آدم فقبلها ، أبوا حين ظنوا أنهم إياهم يحملون ، وحمل آدم حين علم أنه به يحمله لا بنفسه.
وقال أيضا : نظر آدم إلى عرض الحق فأنساه لذة العرض ثقل الأمانة ، ولما عرض على
__________________
(١) قال في الأسئلة المقحمة كيف عرض الأمانة عليه ما علمه بحاله من كونه ظلوما جهولا.
والجواب هذا سؤال طويل الذيل ، فإنه تعالى قد بعث الرسل مبشرين ومنذرين إلى جميع الخلق ليدعوهم إلى الإيمان مع علمه السابق ، بأن يؤمن بعضهم ويكفر بعضهم والخطاب عم الكل مع علمه باختلاف أحوالهم في الإيمان والكفر ، فهذا من قبيله وسبيله ، فإنه مالك الأعيان والآثار على الإطلاق. وقد قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كان ظلوما بحق الأمانة جهولا بما يفعل من الخيانة يعنى لم تكن الخيانة عن عند وقصد بل كانت عن جهل وسهو. تفسير حقي (١١ / ١٥٥).