قوله تعالى : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨) : بيّن الله سبحانه أحوال المقربين والأبرار ، وفرّق بينهم فرقا عجيبا ، إن الأبرار يشربون من أنهار أنوار الصفات ، والمقربون من بحار الذات ، ومزج شراب الأبرار من سواقي أنهار المقرّبين ، ولو شرب الأبرار صرف ما يشرب المقرّبون لذابوا جميعا ، فالأبرار في مقام الأنس ، والمقرّبون في مقام القدس.
قال بعضهم : قال بها المقرّبون صرفا ، ونمزج لأصحاب اليمين ، فليس كل من احتمل حمل الصفات قوي على مشاهدة الذات والصفات ، وشراب المقرّبين لحملهم الذات والصفات جميعا.
قال الجريري : يشرب بها المقرّبون على بساط القرب في مجلس الأنس ، ورياض القدس بكأس الرضا على مشاهدة الحق تعالى.
سورة الانشقاق
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤))
(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) : إذا أراد الله قلع الكون يلقي على السماوات والأرض أثقال هيبة عظمته وكبريائه ، فتنشقّ السماء ، وتمد الأرض من عكس تجلّي عظمته وكبريائه ، وحق منهما أن يقصد عالما عليها من أثقال قهريات جبروته ؛ حيث شققهما وهما طائعتان لربهما ، وكيف لا يكون منهما طاعته ، وهما في قبضة قهر جلاله أقل من خردلة ، ألا ترى كيف قال صلىاللهعليهوسلم : «الكون في عين الرحمن أقلّ من خردلة» (١) ، وكذلك تتجلّى السماء بأرواح العارفين ، وأرض قلوب المحبين بنعت العظمة والكبرياء ، فتنشقّ الأرواح ، وتزلزل القلوب من وقوع نور هيبته عليها ، وبهذا الوصف وصف قلوب المقرّبين عند نزول خطاب الهيبة ، قال الله :
__________________
(١) هو من الأحاديث التي تفرد بذكرها المصنف في كتبه.