بخفاياها إلى مرادها مما دون الله ، فإذا جاهدوها وقهروها بتأييد الله أوصلهم الله مقام مشاهدته ، وهي جنّة العارفين ، فإذا بلغوا إلى درجات المعرفة لم يحتاجوا إلى نهي النفس عن الهوى ، فإن نفوسهم وأجسامهم وشياطينهم صارت روحانية ، فجانست الأرواح الملكوتية ، فشهوات نفوسهم هناك من تآثير حلاوة أرواحهم في مشاهدة الحق ، فتشتهي الأنفس ما تشتهي الأرواح ، الأرواح في الغيوب ، والنفوس في القلوب ، فنظرهم هناك إلى كل شيء يكون للنفوس ، والأرواح جنات ، تظهر فيها أنوار شهود الحق ، وأين الكافر والمعطل والمدعي من هذا المقام؟! وهم خلقوا من الجهالة ، فيموتون في الضلالة ، وأصحاب القلوب والمعارف عيش أرواحهم عيش الربانيين ، وعيش نفوسهم عيش الجنانيين ، والله قادر بذلك ، يختص برحمته من يشاء ، قال الله تعالى : (أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ؛ ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : «أسلم شيطاني» (١) ، وقال : «نحن معاشر الأنبياء أجسادنا روح» (٢).
قال بعضهم : من تحقّق في الخوف ألهاه خوفه عن كل مفروح به ، وألزمه الكمد إلى أن يظهر له إلا من خوفه.
وقال سهل : لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء ، وبعض الصديقين ليس كلهم ، وإنما سلم من الهوى من ألزم نفسه الأدب.
سورة عبس
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦))
(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (٢) : بيّن الله سبحانه هاهنا درجة الفقر وتعظيم أهله وخسة الدنيا وتحقير أهلها ، وأن الفقر إذا كان نعت الصادق في المعرفة والمحبة كان شرفا له ، وهو من أهل الصحبة ، ولا يجوز الاشتغال بصحبة الأغنياء ودعوتهم إلى طريق
__________________
(١) تقدم تخريجه.
(٢) تقدم تخريجه.