قال الحسين في قوله : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) : هذا جواب لما سلف من قولهم لا أن أحدا يستطيع حمل مننه ، فكيف يمن على من خطر له عنده ، ولا أثر منه عليه ، وأعجب منه ألا يمن على أحد إلا بالمخلوق ، ولا وزن للكون عنده ، فكيف يمنّ بمن لا وزن له على أحد؟! عجبت من مقالة أكابر المشايخ بأن منة الله على العبد حجاب ومكر إن أرادوا بالمنة الفعل واصطناع الكريم يكون ذلك مكرا ؛ لأن العبد إذا كان في رؤية النعمة فهو محجوب من رؤية المنعم ، وإن أرادوا بالمنة صفته الأزلية بأنه منان على كل ذرة من العرش إلى الثرى ، فإن ذلك ليس بحجاب ؛ إذ منانيته كشوف وصفه بنعت تعريف نفسه لعباده ؛ ليعرفوه بالصفة لا بالغير ؛ ولذلك قال الجنيد ـ قدّس الله روحه ـ : إن منّ العباد تفزيع ، وليس من الله تفزيع ، وإنما هو من الله تذكير النعم ، وحثّ على شكر المنعم ، ثم بيّن سبحانه أن المتكلفين بإسلامهم على حبيبه عليه الصلاة والسلام من جهلهم بالله وبأنفسهم ؛ إذ ليس لهم منة ؛ لأنهم عجزة أنفسهم ، والمنة لمن هو منزّه عن الخلل والنقصان ، وهو محيط بكل ذرة بعلم أزليّ ، ويعلم حقائق الأشياء ؛ إذ هو موجدها بقوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨) : ليس له غيب ؛ إذ الغيب شيء مستور ، وجميع الغيوب عيان الله ، وكيف يغيب عنه؟! وهو موجده ، يبصر ببصره القديم ما كان وما لم يكن ؛ إذ هناك العلم والبصر واحد.
سورة ق
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧))
(ق) : قف ، أقسم الله سبحانه بذاته وصفاته ، قاف قاف كبرياء قدمه ، الذي هو أصل وأصل كل أصل ، (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) : الذي هو مخبر عن جميع الذات والصفات ، المشتمل على حكميات الأفعال ، المقدس عن تغاير الأزمنة والدهور ، الذي كشف بيان ما يقع لأرواح العارفين وأسرار الواصلين ، وقلوب المحبين ، وعقول الصديقين ، وصدور المقربين ، ظاهره ظاهر البيان من حيث العبودية ، وباطنه باطن العيان من حيث الربوبية ، وحرف القاف