قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) (٤٤) : كيف التقوّل منه ، وهو مقدّس بحفظ الله وعنايته عن الشرك ، والشك ، والنفاق ، وسوء الأخلاق ، هو عالم تعالى بأن قلبه ولسانه لم يكونا موضع الاختلاف والقول لكنه هذه ، بأنه لا يكشف بأسرار الحق التي انكشفت له من غيب الغيب ، وتلك الأسرار لو ظهرت بعضها للخلق لتعطلت الأحكام ، وطاشت الأرواح ، واضمحلّت الأجسام.
قال الواسطي : ما كشفنا له من الحقيقة لو نطق بها لاقينا أوصافا ، مع أن كل ذكر ليس بذكر ، وليس لله وقت ماض ، ولا حين مستأنف.
وقال أيضا : علامة مجذوب الحق إذا رغب حجب ، وإذا صرف جذب.
قال : لعمرك أنه حجب ، ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل جذب ، وإذا أظهر نفسه حجبه ، وإذا أظهره لغيره جذبه مع أن كل مثبت محجوب.
وقال أيضا : لم يلطف له بلطيفه ، فقال : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٢) ، وهذا الخطاب تلبيس ، ولو تقوّل تنبيه ، وهو أتمّ له في ذلك الحال.
(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))
قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (٥١) : «حق اليقين» : ما بان باطنه من ظاهره ، وظاهره من باطنه ، وباشر نور القلب ، ويحرق ما دون الحق من ذكر الخلق ، وهو الحق من حيث الحقيقة التي ظهرت في لباس الآيات ، إما ذاتا ، وإما صفة ، وكلامه حق عيان بأنه فيه الاسم والمسمّى ، وذلك من حيث الحقيقة واحد ، فلم يبق لعارفه شكّ ولا مكاشفة حجاب ، ثم خاطب المكاشف المحقق بأنه منزهه عن الظنون ، والأوهام ، والممازجة بالحدثان بقوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢).
قال الجنيد قدّس سره : «حق اليقين» : ما يتحقق للعبد من معرفة بالحق ، وهو أن يشاهد الغيوب ، كمشاهدة المرئيات مشاهدة وعيان يحكم على الغيبات ، ويخبر عنها بالصدق كما أخبر الصدّيق الأكبر في مشاهدة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وبين يديه حين سأله : «ما أبقيت لنفسك؟ قال : الله ورسوله» (١) ، فأخبر عن تحققه بالحقيقة ، وقطعه عن كل ما سواه ، ووقوفه معه على
__________________
(١) رواه البيهقي في الشعب (٢ / ١٠٦).