قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥) : وصف الله سبحانه منازل المتقين الذين أقبلوا على الله بنعت المعرفة والمحبة ، وخرجوا مما دونه من البرية ، وتلك المنازل عالم بالمشاهدة ومقامات العندية جنانها رفارف الإنسان ، وأنهارها أنوار القدس ، أجلسهم الله في بساط الزلفى المداناة التي لا يتغير صاحبها بعلة القهر ، ولا يزول عنها السر والحجاب ؛ لذلك سماه مقعد صدق أي : محل كرامة دائمة وقربة قائمة ومواصلة سرمدية.
قال جعفر : مدح المكان بالصدق ، فلا تقعد فيه إلا أهل الصدق ، وهو المقعد الذي يصدق الله فيه مواعيد أوليائه بأن يبيح لهم النظر إلى وجهه الكريم.
وقال الواسطي : أهل الصفوة والمتحققون في أنوار المعارف الذين لا يحجبهم الجنة لا النعيم ولأثنى عنه أولئك (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) ، يا أخي هؤلاء غرباء الله في الدنيا والآخرة ، أدخلهم الله في أغرب منازل ، وهو مقام مجالسة الحق معهم ؛ حيث لا يطّلع عليهم إلا أهل الصدق في عشقه وأهل الشوق في طلبه وأهل المعرفة به ، والله بذلك مقتدر قادر ؛ لذلك قال عند مليك مقتدر وأظن أنهم فقراء المعرفة الذين وصفهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث قال : «الفقراء جلساء الله» (١).
سئل أبو يزيد عن الغريب؟ قال : الغريب من إذا طالبه الحق في الدنيا لم يجده ، ولو طالبه مالك في النار لم يجده ، ولو طلبه رضوان في الجنة لم يجده. فقيل : فأين يكون يا أبا زيد؟ فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥).
سورة الرحمن
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦))
(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) : بيّن هاهنا فضل محمّد صلىاللهعليهوسلم على آدم عليه الصلاة والسلام ؛ حيث علّم آدم أسماءه ، وعلّم محمّدا صلىاللهعليهوسلم صفاته ، إذ الصفات لا تخلو من الأسماء ، والأسماء تنبئ عن الصفات والذات ، وفيه بيان أنه بذاته سبحانه خاطبه بالقرآن شفاها عند
__________________
(١) رواه ابن عدي في الكامل (٦ / ٣٧٧).