قال القاسم : دخل في هذا المعنى نفوس الخلق وآثارهم وأعمالهم وخطرات قلوبهم وأنفاسهم في أوقاتهم وأخلاقهم المحمودة والمذمومة وآجالهم ومعايشهم ؛ إظهارا لما سبق فهم من العلم وإيجاد القدرة أنه ضبط كل شيء بتقديره ، لا انفكاك لأحد من ذلك تقديرا من العزيز العليم ، وقهر جميع الأشياء بإجراء إرادته عليهم وتيسيرهم على ما قدر عليهم ولهم.
(وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١))
قوله تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) : في هذه الآية بيان ثلاث مراتب : مرتبة سر علم القدر القديم الذي كان موصوفا به ، وذلك العلم ، وسر القدر مشيئته ؛ إذ عينهما واحد ، ومن بطنان أزال الآزال ، سار سر القدر إلى المرتبة الثانية ، وهي الأمر وحقيقة الأمر قبل ظهوره في الفعل ، فبلغنا إلى المرتبة الثالثة ، وهي الفعل ، فلما وصل القدر والأمر إلى الفعل ظهرت المقدرات من العدم بها بأقل لمحة أي : سيران علم سر القدر من بطون أزل الأزل إلى عالم الأمر والفعل أقل من لمحة على تقديركم إذا استحال الزمان في مشيئة الرحمن لا يكون إلا الإرادة والعلم والأمر ، وأنها خارجة من علل الزمان ، هو ظهور القدم للعدم ، فإذا ظهر القدم للعدم صار المقدر مكونا كينونيته بالله ، فخرج على نعت صورة العلم والتقدير ، كأنه مع التقدير من حيث العلم لا من حيث الوجود ، فأمره علمه إرادته ، فإذا أراد ما علم من نفسه تجلى من الإرادة للعلم ، ومن العلم للإرادة ، ومن الإرادة والعلم للتقدير والحكمة ، فصار ذلك عين التوحيد ، فإذا تجلها بجميعها للأمر يكون الأمر عين الجمع ، وعين الجمع محل الالتباس وأهل الرسوم ، سموا ذلك الخلق والفعل ، وتسمى ذلك الأول ظهور القدم للقدم ، وهو عين العين ، ويسمى الثاني ظهور الصفة في الفعل والأمر ، وهو عين الجمع.
وقال الحسين : الأمر عين الجمع ، والإرادة عين العلم ، ثم بين أن أفعال العباد جرت على سابق تقدير لا ومشيئته مسطورة في ألواح علمه ، وزبر تقديره وحذرهم بها حتى يرقبوا انفتاح مصادر أسراره ، ويروا لطائف أنواره ، ويعرفوه بآياته وصفاته ، ويخافوا من قهره وجبروته.
(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣))
وقال الله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ.)
قال يحيى بن معاذ : من علم أن أفعاله تعرض عليه في مشهد الصدق فإنه محاسب عليها لاجتهد في إصلاح أفعاله وإخلاص أعماله ، ولزم الاستغفار على ما سلف من إفراط.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))