قال الجنيد : والله الغني وأنتم الفقراء ، لأن الفقر يليق بالعبودية والغنى بالربوبية ، ثم بيّن وصف غناه عن العالمين في آخر السورة بقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨) أي : إذا ذقتم طعم شراب وصالي وسكرتم لمشاهدة جمالي وتفقرون إلى بحار الأنائية وتستغرقون في لجج الأحوال وتخرجون منها بالعربدة فأوجد أقواما من المستقيمين على بساط جبروتي وساحات ملكوتي ، ولا يزيفون عن سبل التمكين إلى شعب التلوين.
قال بعضهم : لا يستقر على حقيقة بساط العبودية إلا أهل السعادة ، وقد يطأ البساط المترسمون بالعبودية أوقاتا ، ثم لا يستقرون عليه ، ويبدل الله مكانهم فيه من أوجب لهم السعادة ، ألا تراه يقول : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ.)
سورة الفتح
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))
(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) : نبّهنا الله في ذلك من سرّ عجيب ، وهو أن أبواب كشف القدم مسدودة على أهل الحدثان ، ولم يظهر لأحد عين ذات الأزل ، ففتح الله أبوابه لعين محمد صلىاللهعليهوسلم حتى رآه كفاحا ، فتح سمعه فأسمعه كلامه شفاها ، وفتح باب قلبه وروحه وسرّه ، فعرف نفسه لها ، حتى وجدت أبواب خزائن علومه الغيبية مفتوحة ، وفتح الله جميع أبواب وجود حبيبه صلىاللهعليهوسلم حتى الشعرة على بدنه وجعلها عيونا مفتوحة بمفاتيح توحيده وأنوار حقيقته حتى رآه بجميع عيون وجوده ، وذلك الفتح ظاهر من وجوده حتى لا يراه أحد إلا ويرى نور الصمدية ينتشر من بشريته ، لكن كان محجوبا من عيون الأغيار بقوله : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ، وذلك الفتح سبب غفران ذنبه الأول وذنبه الآخر ، الذنب الأول سقوطه من زند الفعل على نور الصفة ؛ إذ أتى في أوّل الأول بوجود الحدث إلى ساحة القدم ، ومع ما أتى به لم يأت بحقوق الأزلية عليه بكمالها ، فإذا قصّر في واجب حق الربوبية بكماله عليه صار ذلك ذنبه الأول ، وذنبه الآخر وقوفه بنعت الخطاب على مدارج العبودية بعد أن غاص في بحر الربوبية ، فإن من شرائط وجدانها الخروج من المرسومات ، فذلك الفتح سبب غفران الذنبين ، وليبلغه إلى محض