الفراسات مقرونة بعلامات الظاهر ، وأنها تتم بما بدا من سيماء الوجوه ، ولحن القول والفراسة المحضة ما قال عليه الصلاة والسلام : «اتقوا فراسة المؤمن ؛ فإنّه ينظر بنور الله» (١) ، وبيّن أن ما يكون من الصدق في القول آثاره تبدو من السّماء وصدق القول وما يكون بخلاف ذلك ؛ فلذلك قال القاسم في قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) : أطلعناك على سرائرهم ، (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) فطنة ، (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ظاهرا ، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) ، لا يقف على ما لهم من السعادة والشقاوة أحد.
وقال أيضا : إن عند الله الأكابر والسّادة يعرفون صدق المريد من كذبه بسؤاله وكلامه ؛ لأن الله يقول : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.)
(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))
قوله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (٢) : وصف الله سبحانه نفسه بغنى القدم واستغنائه عن الكون وما فيه وأن خزائن جوده لا نهاية لها ، وغناه صفته الأزلية القائمة يحوي حواشي بحارها فقر أهل الأكوان والحدثان ، فيغنيهم بغناه الذي لا فقر بعده ، وحقائق معنى الخطاب للمتصفين بصفاته الذين وجدوا مقام الغنى من الله بعد أن كساهم الحق نور غناه وجرّدهم عن مقام الفقر ، الذي هو مستفاد من نعوت تنزيه القدم ؛ إذ كان ولا مكان ولا وقت ولا زمان أي : أنتم وإن بلغتم إلى مقام الاتصاف بصفة غنائي فأنتم بعد فقراء ، إذ الوصف للموصوف لا للمتصف ، وأنه لا نهاية له.
قال الجنيد : في موضع الغنى كسوة الحق.
وقال سهل : معرفة علم السر كله للفقر ، وهو ستر الله ، وعلم الفقر إلى الله تصحيح علم الغنى بالله.
__________________
(١) تقدم تخريجه.
(٢) قال القشيري : والله الغني لذاته بذاته ، ومن غنائه : تمكّنه من تنفيذ مراده ، واستغناؤه عما سواه ، وأنتم الفقراء إلى الله ، في نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، في الابتداء ليخلقكم ، وفي الوسط ليربيكم ، وفي الانتهاء يفنيكم عن أنانيتكم ، ويبقيكم بهويته ، فالله غني عنكم من الأزل إلى الأبد ، وأنتم الفقراء محتاجون إليه من الأزل إلى الأبد.