سقيم بمحبتك مملوء من شوقك ، محترق بنيران عشقك ، خال عن غيرك من العرش إلى الثرى ، رفيق بلزوم أنوار كشف جمالك ، له لطيف في تقلب ذاتك وصفاتك بنعت المحبة والمعرفة ، وأيضا بقلب طاهر عن الأدناس ، وعن الهواجس والوسواس ، بيّن سبحانه في هذه الآيات مقام خليله بين يديه من المراتب الشريفة والحالات الرفيعة ، الإشارة الأولى بقوله : (الَّذِي خَلَقَنِي) إلى محض وحدانية الحق وكمال قدرته الأزلية بنعت نفي الأنداد والأضداد.
وأشار في قوله : (فَهُوَ يَهْدِينِ) إلى قطع الأسباب والاكتساب في النبوة والولاية والخلة بالإشارة إلى الاصطفائية السابقة ، وأشار في قوله : (هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) إلى مقام التوكل والرضا والتسليم والتفويض ، وقطع الأسباب ، والأعمال إليه بالكلية ، والإعراض عما سواه ، وهكذا الإشارة في قوله : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) رفع الرجوع إلى غيره والسكون إلى التداوي والمعالجة بشيء ؛ فهو كمال التسليم ، وأشار بقوله : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) أنه مشاهد سوابق القدر بنعت الرضا بالحكم والقضاء.
وأشار بقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) إلى مقام حسن اليقين ، وحسن الرجاء ، وخالص العبودية ، وأشار بقوله : (وَلا تُخْزِنِي) إلى مقام الإجلال والتعظيم والخوف والخشية والهيبة ، وأشار بقوله : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) إلى التخلق بخلق الله والاتصاف بصفته إذ لم يكن القلب سليما بلا عيب إلا إذا كان متصفا بطهارة قدس الحق عن النظر إلى الخلق ، واستعمل حسن الأدب في كمال خلقه ومعرفته في وصف الحق سبحانه بمكنيات ألفاظ حيث قال : (الَّذِي) ، وهذا من غلبه حرمة الحق عليه ، وتمكينه في الصحو بعد سكره في البداية ، وجرأته حين غلب عليه سكر المحبة حيث خاطب الحق بتصريح القول في المواجهة بقوله : (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] ، و (رَبِّ اجْعَلْنِي) [إبراهيم : ٤٠] ، و (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧] ، والدليل على ذلك قول الواسطي قال : لما استغرق إبراهيم في الخلة احتشم من ذكر خليله بالتصريح ، فرجع إلى الصفات جعل يقول : «الذي» ، ولم يصرح بل كنى ، والكناية فيها تصريح ، ولما كان في ابتداء مقاماته وأوائل جذبه لم يستغرق في الخلة جعل يصرح ، ويقول : «ربي» «ربي».
قال بعضهم : الذي خلقني لعبوديته يهديني إلى قربه.
وقال بعضهم : الذي خلقني لدعوة خلقه سيهديني إلى آداب خلته.
قال الأستاذ : أي : يهديني إليّ فإلي محو في وجودي ، فليس لي خير عني.
وقال النهرجوري : الذي يطعمني حلاوة ذكره ، ويسقيني كأس محبته.