أو لم يروا كيف خالف بين أحوال الناس في الرزق : فمن موسّع عليه رزقه ، ومن مضيّق عليه ، وليس لواحد منهم شىء ممّا خصّ به من التقليل أو التكثير.
قوله جل ذكره : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣))
(١) التسمية ب (يا عِبادِيَ) مدح (٢) ، والوصف بأنهم (أَسْرَفُوا) ذم. فلمّا قال : (يا عِبادِيَ) طمع المطيعون في أن يكونوا هم المقصودين بالآية ، فرفعوا رءوسهم ، ونكّس العصاة رءوسهم وقالوا : من نحن .. حتى يقول لنا هذا؟!
فقال تعالى : (الَّذِينَ أَسْرَفُوا) فانقلب الحال ؛ فهؤلاء الذين نكّسوا رءوسهم انتعشوا وزالت ذلّتهم ، والذين رفعوا رءوسهم أطرقوا وزالت صولتهم (٣).
ثم أزال الأعجوبة عن القسمة بما قوّى رجاءهم بقوله : (عَلى أَنْفُسِهِمْ) يعنى إن أسرفت فعلى نفسك أسرفت.
(لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) : بعد ما قطعت اختلافك إلى بابنا فلا ترفع قلبك عنّا.
(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) الألف واللام فى (الذُّنُوبَ) للاستغراق والعموم ، والذنوب جمع ذنب ، وجاءت (جَمِيعاً) للتأكيد ؛ فكأنه قال : أغفر ولا أترك ، وأعفو ولا أبقى.
__________________
(١) أورد الواحدي في أسباب النزول عدة اقوال بشأن من نزلت فيهم هذه الآية الكريمة ، ومن هذه الروايات : عن ابن عباس قال : نزلت في أهل مكة حين قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له ، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله.
وقال ابن عمر : نزلت في عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فتركوا دينهم.
ويروى أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة. (الواحدي ص ٢٤٨ ، ٢٤٩).
(٢) يقول الدقاق : ليس شىء أشرف من العبودية ، وقد سمى بها الحق نبيه (ص) فقال : سبحان الذي أسرى بعبده ، وقال : فأوحى إلى عبده ما أوحى ـ ولو كان اسم أجل من العبودية لسماه به. (الرسالة ص ١٠٠).
(٣) راجع ما قاله القشيري في قصة داود : (إنّ زلّة أسفك عليها يوصلك إلى ربك أجدى عليك من طاعة إعجابك بها يقصيك عن ربك). ويقول على بن أبى طالب : ما في القرآن أوسع من هذه الآية. ويقول عبد الله ابن عمر : هذه أرجى آية في القرآن.