لا يكون بجعل جاعل أو بناء من العقلاء لتكون الحجّيّة من الأمور المجعولة أو من القضايا المشهورة ، بل من الامور الواقعيّة الأزليّة كما هو الحال في جميع الاستلزامات العقليّة.
والفرق بين القول الثالث والأوّل في حكم العقل وعدمه ، فإنّ القول الأوّل يشتمل على الحكم دون القول الثالث ، ولذا قال في مصباح الاصول : أنّ العقل شأنه الإدراك ليس إلّا ، وأمّا الإلزام والبعث التشريعي فهو من وظائف المولى. نعم الإنسان يتحرك نحو ما يراه نفعا له ويحذر ممّا يراه ضررا عليه. وليس ذلك بإلزام من العقل ، بل المنشأ فيه حبّ النفس ، ولا اختصاص له بالإنسان ، بل الحيوان أيضا بفطرته يحبّ نفسه ويتحرّك إلى ما يراه نفعا له ويحذر ممّا أدرك ضرره. وبالجملة حبّ النفس وإن كان يحرّك الإنسان إلى ما قطع بنفعه إلّا أنّه تحريك تكوينيّ لا بعث تشريعي (١).
ولا يخفى عليك أنّ العقل يدرك قبح مخالفة المولى في أوامره ونواهيه كما يدرك حسن الإطاعة والعمل بها ، وهذا الإدراك من جهة إدراكه حسن العدل وقبح الظلم ؛ إذ المخالفة هتك للمولى والهتك ظلم كما أنّ الإطاعة والعمل بأوامره ونواهيه مراعاة لحقوق المولى وعدل.
التحسين والتقبيح لا يصدران إلّا من العاقل بما هو عاقل ، فإذا قطع العاقل بخطاب من خطابات المولى يدرك استحقاق العقوبة لمخالفته وضرورة ترتّبه عليها ، وهذا الإدراك التقبيحي او التحسيني يوجب تحريكه نحو الإطاعة وترك المخالفة. ولا فرق في ذلك بين أن يأمر العقل بذلك ويبعث ويحرّك أو لا ، فإنّ نفس التقبيح والتحسين يفعل ما يفعل الإلزام والبعث ولا حاجة إليهما ، ولكن ذلك على كلّ تقدير
__________________
(١) مصباح الاصول ٢ : ١٦.