الأمر الثالث : في ملازمة حكم العقل بقبح التجرّي مع حكم الشرع بالحرمة. وعدمها ولا يخفى عليك أنّه يقع الكلام حينئذ في أنّ حكم العقل بقبح الفعل المتجرّى به هل يستلزم حرمته شرعا أولا؟.
وقد استدلّ على ذلك بقاعدة الملازمة بين الحكم العقليّ والحكم الشرعي أعني كلّما حكم به العقل حكم به الشرع.
أورد عليه في مصباح الاصول بأنّ القاعدة المذكورة مسلّمة إن كان المراد بها إدراك العقل في ناحية سلسلة علل الأحكام الشرعيّة من المصالح والمفاسد ؛ إذ العقل لو أدراك مصلحة ملزمة في عمل من الأعمال وأدرك عدم وجود مزاحم لتلك المصلحة فلا محالة علم بوجوبه الشرعي بعد كون مذهب أهل العدل أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد ، وهكذا لو أدرك مفسدة ملزمة بلا مزاحم علم بالحرمة الشرعيّة لا محالة فهذه الكبرى مسلّمة ولا كلام فيها ، وإنّما الكلام في صغراها ؛ إذ قلّما يوجد مورد يعلم العقل بعدم المزاحم كموارد المستقلّات العقليّة كحسن العدل وقبح الظلم ؛ لأنّ العقل لا يحيط بالمصالح الواقعيّة والمفاسد النفس الأمريّة والجهات المزاحمة لها ، ولذا ورد فى الروايات أنّ دين الله لا يصاب بالعقول وانّه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرجال.
وإن كان المراد بها إدراك العقل في ناحية معلولات الأحكام الشرعيّة كحسن الإطاعة وقبح المعصية وقبح التجرّي وحسن الانقياد فإنّ حكم العقل فيها فرع ثبوت الحكم الشرعيّ المولويّ ، فقاعدة الملازمة أجنبيّة عنه.
وعليه فلا دليل على أنّ حكم العقل بقبح التجرّي يستلزم الحرمة الشرعيّة ، بل لنا أن ندّعي عدم إمكان جعل حكم شرعيّ مولويّ في المقام ؛ إذ لو كان حكم العقل كافيا في إتمام الحجّة على العبد وفي بعثه نحو العمل أو زجره عن العمل كما هو الصحيح فلا حاجة إلى جعل حكم شرعيّ مولويّ آخر ، وإن لم يكن كافيا فلا فائدة