أجزاء مجزأة ليست بسواء ، دمه غير لحمه ، ولحمه غير دمه، وعصبه غير عروقه ، وشعره غير بشره ، وسواده غير بياضه ، وكذلك سائر جميع الخلق ، فالإنسان واحد في الإسم لا واحد في المعنى ، والله جل جلاله واحد لا واحد غيره ، لا اختلاف فيه ولا تفاوت ، ولا زيادة ولا نقصان ، فأما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف من أجزاء مختلفة وجواهر شتى ، غير أنه بالاجتماع شيء واحد» .
قلت : جعلت فداك ، فرجت عنى فرج الله عنك ، فقولك : اللطيف الخبير فسره لي كما فسرت الواحد، فإني أعلم أن لطفه على خلاف لطف خلقه للفصل ، غير أني أحب أن تشرح لي ذلك ، فقال : «يا فتح ، إنما قلنا : اللطيف ، للخلق اللطيف ، ولعلمه بالشيء اللطيف وغير اللطيف ، وفي الخلق اللطيف من الحيوان الصغار من البعوض والجرجس (١) وما هو أصغر منها ، ما لا تكاد تستبينه العيون، بل لا يكاد يستبان ـ لصغره ـ الذكر من الأنثى، والحدث المولود من القديم .
فلما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتدائه للسفاد، والهرب من الموت ، والجمع لما يصلحه مما في لجج البحار، وما في لحاء الأشجار والمفاوز (٢) والقفار ، وفهم بعضها عن بعض منطقها ، وما تفهم به أولادها عنها ، ونقلها الغذاء إليها ، ثم تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياضاً مع خضرة ، وما لا تكاد عيوننا تستبينه بتمام خلقها ، ولا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا ، علمنا أن خالق هذا الخلق لطيف، لطف في خلق ما سمينا ، بلا علاج ولا أداة
__________________
(١) الجرجس: البق. وقيل: البعوض المحكم والمحيط الأعظم ٧: ٥٨١ ـ جرجس.
(٢) المفازة : الفلاة، وسميت الفلاة مفازة ؛ لأن من خرج منها وقطعها فاز، تهذيب اللغة ١٣ : ٢٦٤ ـ فاز .