الْغابِرِينَ ) (١)
وقيل : جاء بمعنى الخلق أيضا ، ومثّل له بقوله تعالى : ( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ) (٢).
فتأمّل.
فنقول : لا إشكال في تعلّق القضاء والقدر بجميع معانيها بغير الأفعال الاختيارية ، إنّما الإشكال في تعلّقها بتلك الأفعال ، فمن أراد أنّ الله حكم عليها وألزم بها مولويا ، بأن أمر ببعضها ونهى عن بعضها فهو معنى صحيح دلّ عليه الكتاب والسنة والعقل. وكذا إن أراد أنّه بيّن تلك الأحكام وبيّن مقاديرها ومراتبها بحسب الفرض والنفل ، وبحسب الحسن والقبح ، وكذا لو أراد أنّه أعلم وكتب وبيّن أنهم سيفعلونها.
وكذا لا بأس بتعلّق التقدير والقضاء التكوينيّ بأسبابها ومقدماتها وبالدواعي إلى وجودها أو عدمها ، وبالقدرة على فعلها وتركها ، فإنّه وإن كانت المقدمات والمقتضيات والدواعي مخلوقة لله تعالى ، وكانت القدرة المفاضة منه تعالى على العبد بقدر ـ كما عن الاحتجاج بعد ذكر الخبر المتقدم : وروي أن الرجل قال : فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟ فقال : الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية ، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية ، والمعونة على القربة إليه ، والخذلان لمن عصاه ، والوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، كل ذلك قضاء الله في أفعالنا ، وقدره لأعمالنا ، أمّا غير ذلك فلا تظنّه فإنّ الظن له محبط للأعمال. فقال : فرّجت عني يا أمير المؤمنين فرّج الله عنك (٣) ـ إلاّ أن تلك القدرة المفاضة عليه تجعل العمل المقدور له فعله ومنتهيا إليه ، لا إلى معطي القدرة الذي أعطاها إيّاه ليصرفها في طاعته ، وأعملها العبد بسوء اختياره في معصيته.
والإنسان وإن كان لا يعمل عملا إلاّ بالداعي ، ولكن القدرة المفاضة عليه بعد وجود الداعي توجب نسبة العمل على نحو الحقيقة إليه لا إلى الداعي.
ويظهر ذلك كمال الظهور إذا كان الداعي إلى الطرفين كليهما موجودا ، وكان اختيار
__________________
(١) النمل ٥٧.
(٢) فصلت ١٠.
(٣) البحار ٥ : ٩٦.