في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا كما منه خلق ، وما تقذف به السباع والهوامّ من أجوافها ، فما أكلته ومزّقته كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وإنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب في التراب فإذا كان حين البعث مطرت الأرض ، فتربوا الأرض ثمّ تمخض مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيجتمع تراب كلّ قالب ( إلى قالبه ) (١) ، فينتقل بإذن الله تعالى إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها ، وتلج الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا ... (٢).
وعن أمالي الشيخ مسندا عن حفص بن غياث ، قال : كنت عند سيّد الجعافرة جعفر بن محمّد عليهماالسلام لمّا أقدمه المنصور ، فأتاه ابن أبي العوجاء وكان ملحدا فقال : ما تقول في هذه الآية ( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ) (٣) ، هب هذه الجلود عصت فعذّبت ، فما ذنب الغير؟ قال أبو عبد الله عليهالسلام : ويحك هي هي وهي غيرها. قال : أعقلني هذا القول ، فقال له : أرأيت لو أنّ رجلا عمد إلى لبنة فكسرها ثمّ صبّ عليها الماء ، وجبلها ثمّ ردّها إلى هيئتها الاولى ألم تكن هي هي وهي غيرها؟ فقال : بلى أمتع الله بك (٤).
أقول : الظاهر أنّ المراد أنها هي هي من جهة المادّة ، وغيرها من جهة الصورة ، فعليه تكون الرواية صريحة في أنّ المعذّب ليس هو الصورة المحضة ، وإلاّ فلا يكون هي هي حقيقة.
وعن أمالي الصدوق مسندا عن جميل عن جعفر بن محمّد عليهماالسلام ، قال : إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء أربعين صباحا ، فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم (٥).
__________________
(١) ما بين القوسين ليس في البحار.
(٢) الاحتجاج ٢ : ٩٧ ، وعنه البحار ٧ : ٣٧.
(٣) النساء : ٥٦.
(٤) البحار ٧ : ٣٩ عن الأمالي و ٧ : ٣٨ عن الاحتجاج بتفاوت يسير.
(٥) البحار ٧ : ٣٣.