إذا عرفت ما بيّنّاه لك من أوّل الرسالة إلى هنا فإنّك تصير في الجملة عارفا بنفسك ، وبأنّها كسائر الحقائق المبدعة المحسوسة بالحواسّ الظاهرة والباطنة ، حقيقة ميّتة لا شعور لها بنفسها لنفسها فضلا عن غيرها ، يفاض عليها نور العلم والفهم والقدرة وغيرها من الكمالات لا بنحو فيضان شيء من شيء ، كنور الشمس من الشمس ، والحرارة من النار ، ولا بنحو تطوّر الماء بالزبد والبخار ، والأمواج والسواقي والأنهار ، بل بإيجاد صفة يعبّر عنها بالوجدان ، في القابل لتلك الصفة الذي عبّر عنه في الروايات بالحامل ، بلا تغيّر في ذات المفيض القدّوس الذي ليس كمثله شيء. فسبحان الله ربّ العرش عمّا يصفون.
وستعرف إن شاء الله ـ إذا عرفت ربّك بحقيقة المعرفة ـ أنّك كسائر الأشياء شيء بالغير الذي هو منشئ الشيء لا من شيء ، وقيّوم ذاته لا كقيّوميّة العلّة لمعلولها المتولّد منها ، بل قيّوميّة المبدع لما أبدعه لا من شيء ، قيّوميّة لا غنى عنها أقلّ من آن.
فما يكون عنوان ذاته شيئا بالغير قائما به ـ أي لا قوام له إلاّ به ـ مباين ذاتا لخالقه الذي هو شيء بحقيقة الشيئيّة قائم بذاته.
إذا عرفت نفسك بذلك استعددت لأن تعرف ربّك بعض المعرفة ، فقد روي : من عرف نفسه فقد عرف ربّه (١). أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه (٢). وروي في معرفة النفس أنّ فيها معرفة الربّ (٣). وبه استعددت أيضا لفهم ما ورد عنهم صلوات الله عليهم في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
في أنّ : أشرف المعارف معرفته تعالى ، وفي لزوم التمسّك بالقرآن وحملة علومه :
بعد ما عرفت أنّ الكاشف والحجّة الذاتيّة هو العلم والعقل نقول :
__________________
(١) غرر الحكم ، البحار ٢ : ٣٢ ، مصابيح الأنوار ١ : ٢٠٤.
(٢) روضة الواعظين ٢٠.
(٣) مصباح الشريعة ، الباب ٥.