بالله حجة لله عليهم ، فمنهم من هداه الله ، ومنهم من لم يهده (١).
اقول : الظاهر أنّ قوله : فمنهم من هداه الله ... ، الهدايات الخاصة.
منشأ هذا العرفان المفطور عليه كل إنسان من آدم ومن بعده من أولاده وأولاد أولاده إلى يوم القيامة ، ومبدؤه ، هو : معرفة ذاته تعالى شأنه بذاته ووجدان العبد إيّاه وجدانا لائقا بذاته القدّوس حصلت لكل إنسان في عوالم سابقة واقعة قبل خلقة أبدانهم من أجزاء التراب ، المعبّر عنها في الروايات المباركات بالذرّ ، لكون بدن الإنسان فيها من جهة الصغر كالذرّ أو أصغر ، المشار إليها بقوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) (٢). وقبل ذلك في عالم الأرواح والأظلّة والأشباح ، المخلوقة قبل الأبدان الذرّية.
وبالجملة : عرّفهم نفسه في تلك النشآت مرارا معرفة جليّة عبّر عنها بالرؤية ، المفسّرة بقولهم : لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، بل رأته القلوب بحقائق الإيمان ، فأثبتها في قلوبهم وأنساهم الرؤية.
وهذه المعرفة من الله تعالى التي ليس للعباد فيها صنع هي المحقّقة لموضوع العهد والميثاق الذي أشار إليه ـ على ما في بعض الروايات ـ بقوله تعالى :
( وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٣).
( وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ ) (٤).
__________________
(١) تفسير البرهان ٣ : ٢٦٣.
(٢) الأعراف ١٧٢ ، ١٧٣.
(٣) الحديد ٨.
(٤) الأعراف ١٠٢.