عاقبه على تركه ، ولا ينسبه العقل إلى الظلم ، ولا يقول : إنّه أجبره على ترك الفعل ، كما أنّه لو زاد في ألطافه ومننه بتواتر بعث من يحثّه على الطاعة ويرغّبه فيها ويحذّره من تركها ، فأطاع بقدرته واختياره ، لا يقول العاقل : إنّه أجبره على الفعل ، كما أنّه لا يرى بأسا لو فعل تلك الألطاف إلى بعض عبيده وتركها بالنسبة إلى آخرين لعلّل لا يصل إليها علمنا.
وبالجملة : القول بهذا الأمر الثالث لا يوجب نسبة الظلم إلى الله تعالى ، بأن يقال : أجبرهم على المعاصي وعذبهم عليها ، كما قال به المجبّرة ، ولا استقلال العباد واستغناءهم في حركاتهم وسكناتهم عن الله ونسبة الوهن إليه تعالى وعزله عن ملكه كما قال به المفوّضة.
وبه يصحّ التكليف وبعث الرسل والوعد والوعيد والثواب والعقاب والشكر على الإيمان والطاعة لله ، والاستعانة به وطلب التوفيق منه ، والخوف من الخذلان ومن العقاب ، وغير ذلك مما ورد في القرآن المجيد وفي كلام المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، وبدونه يلزم الظلم والعبث ولغويّة جميع ما ذكرنا.
ومنه يظهر أنّ نفي التفويض من أجل أن مبادي الفعل ومقدماته الخارجية والداخلية وغيرها من العلل التكوينية حتى القدرة كلها من الله تعالى ، والعبد قبل العمل ومع العمل حدوثا وبقاء من أوله إلى آخره محتاج إليه تعالى ، والقدرة على كل عمل إنّما تفاض على العبد قبل ذلك بالقبلية الرتبية.
ونفي الجبر من أجل أنّ القدرة واردة على جميع تلك المبادي والعلل والدواعي وحاكمة عليها ، وأنّه بإفاضتها تصير نسبة العبد إلى الفعل والترك من جهة السلطنة عليهما على السواء ، ويكون المرجّح والعلّة لكلّ واحد من الفعل والترك المتساوية نسبتهما إلى الفاعل هو مشيئته ، والمشيئة منتهية إلى نفس الفاعل القادر ، فهو المخصّص والمرجّح لأحد المتساويين على الآخر من جهة السلطنة ، ولا يحتاج في ترجيح أحدهما على الآخر وفي تمامية العلة له إلى غيره ، وإلى غير مشيئته ، والمشيئة فعله الصادر منه بعد تمام المقدمات ، وبعد تمام الدواعي ، فهو الفاعل للفعل لا خالق المقدمات ، وموجد الدواعي ومفيض القدرة ، وبه تتم الحجة.