ومعادن البلدان (١) ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر طير السماء ، ووحش الأرض معهم لفعل. ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء ، واضمحلَّ الابتلاء (٢) ، ولما وجب للقائلين (٣) أُجور المُبتَلين ، ولا لحق المؤمنين ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء أهاليها على معنًى مبين. وكذلك (٤) لو أنزل الله من السماء آية فظلَّت أعناقهم لها خاضعين ، ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين ، لكن الله جلّ ثناؤه جعل رسله أُولي قوَّة في عزائم نيّاتهم ، وضعَفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، من قناعة تملأ القلوب والعيون غناؤه ، وخَصَاصَة تملأ الأسماع والأبصار أداؤه.
ولو كانت الأنبياء أهل قوَّة لا ترام ، وعزَّة لا تضام ، وملك تمدّ له أعناق الرجال ، وتشدّ إليه عقد الرحال ، لكان أهون على الخلق في الاختبار ، وأبعدَ لهم عن (٥) الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم. فكانت النيّات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ، ولكن الله أراد أن يكون الاتِّباع لرسله ، والتصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام لطاعته ، أُموراً له خاصَّة لا يشوبها من غيرها شائبة.
وكلَّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل. ألا ترون أن الله عزوجل اختبر الأوَّلين من لدن آدم إلى الآخرين من هذا العالم ، بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الَّذي جعله للناس قياماً ثم جعله بأوعر بقاع الأرض حجراً ، وأقل نتائق الدنيا مدراً ، وأضيق بطون الأودية معاشاً ، وأغلظ محالِّ المسلمين مياهاً. بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشِلة ، وقرًى منقطعة ، وأثر من مواضع قطر السماء داثر ، ليس يزكو به خفٌّ ولا ظلف ولا حافر.
ثمّ أمر آدم عليهالسلام : وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ، وغاية لملقى
__________________
(١) في النسخة التي بين أيدينا : « ومعادن العقيان » ، لكن أشار المحقّق إلى أنه في بعض النسخ : « ومعادن البلدان ».
(٢) في النسخة التي بين أيدينا : « واضمحلَّت الإنباء » ، لكن أشار المحقّق إلى أنه في بعض النسخ : « واضمحل الابتلاء ».
(٣) جمع قائل ، وهو : الذي ينام القيلولة. لسان العرب ١١ : ٣٧٤ قيل.
(٤) في المصدر : « ولذلك ».
(٥) في المصدر : « في ».