لما أحبّه الله منه ، وطلباً لموافقة إرادته منه وامتثالاً لما أمره به من السلوك إليه من هذا الباب ، ويكون راجياً لوعد الله حتّى كأن حاجته بالباب ، ومسروراً بما فتحه الله إليه من هذا الباب وهداه إليه ، وشكراً لما أنعم الله به عليه من هذه الرحمة ، وأقدره على ولوج هذا الباب.
فإن الدعاء باب عظيم من أبواب الرحمة ، لولا أن الله عزّ اسمه فتحه لعباده وهداهم إليه ودلّهم عليه لما عرفوه. فحقيقة الدعاء محض العبوديّة والقبول التوحيديّ ، فالله أحبّ من عبده أن يسأله ليفيض عليه ويجود ، حتّى قال ( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) (١).
فكن أيّها الداعي قاصداً بدعائك امتثال أمر الله ، وطالباً لرضاه ، ومتأهّلاً لاستفاضة جوده ومحبّته فيما أمر به من دعائه ، والطلب منه وحده وإن في ذلك رضاه ولا تكن بدعائك قاصداً محض تحصيل غرضك وحاجتك ونفعك ، أو دفع ضرّك ، جاعلاً دعاءك لله وعبادتك إيّاه به من قبيل استعمالك دواءً أمرك به طبيب بحيث لو لم ترجُ نفعه لَمَا استعملته ؛ فإنك حينئذٍ لا تكون عابداً لله ، ولا قاصداً التقرّب إليه ، ولا فاعلاً لما أحبّه منك ، ولا محبّاً لما أحبّ مولاك ، ولا طالباً لرضاه ، ولا شاكراً نعماه ، بل طالباً لرضا نفسك ومقبلاً على هواك ، مستخفّاً برضا مولاك.
وعلى هذا التفصيل والبيان تلتئم الأخبار والأدلّة ، ويرتفع عن وجه الحقّ وسبيله الغبار ويجتمع القولان. ولا ينافيه تقسيم العباد إلى ثلاثة أصناف ؛ فإنه لا شكّ أن العباد متفاوتون في دُرَجِ الإيمان ، بل أصحاب الدرجة الواحدة متفاوتون تفاوتاً عظيماً. فالقسمة الثلاثيّة وقعت باعتبار من غلب على نفسه الرجاء ، ومن غلب عليه الخوف لمولاه ، ومنه حال عبادته كما وصفناه ، ومن تساوى فيه الخوف والرجاء فألقاهما عنه حال عبادته.
والناس في كلّ واحد من الأصناف الثلاثة متفاوتة رتبهم تفاوتاً عظيماً باعتبار
__________________
(١) الفرقان : ٧٧.