وإن كان الصبر على محبته لإمامه الحسين عليهالسلام وموالاته له وثباته وعزمه أن يفديه بنفسه ويقيد بمهجته ففي ذلك غاية المدح من الوجهتين : البصيرة والمعرفة بحق الامام المفترض الطاعة ، وهذا دليل العلم والفقاهة ، ومن حب المواسات له بالنفس التأسي به في جميع الحالات ، فهذا دليل على أنّه في غاية الكمال ونهاية الأدب.
وإن أريد بالصبر الصبر على معاناة الأمور الشاقة من الجوع والعطش لأنهم حصروا في فلاة جرداء قاحلة ، وبادية قفراء قاحلة ، قد ملك عليهم الأعداء شريعة الفرات ، وقطعوا عليهم طريق الميرة ، وصدوا القوافل التي تحمل الأقوات اليهم ، فعطشوا وجاعوا ، وفي تخصيص جعفر بالصبر على هذا لا يخفى ما فيه من مزيد الفضل ، والاشارة إلى ما فيه من الايثار والتضحية والتحمل والمعاناة.
وأما قوله عليهالسلام : «النائي عن الأوطان» مع أنّ كلّ من كان مع الحسين عليهالسلام كان نائياً عن الاوطان وجميعهم قد اغتربوا ، فما معنى تخصيص جعفر؟!
فالظاهر ـ والله العالم ـ أنّه إنّما خصّ بذلك لأنّه كان بعد شاب صغير لم يذق طعم الغربة ولم يجربها من قبل ، سيما أنّه كان صاحب نضارة ورونق جميل ، قد تربى في الحضارة ، لم يقوى على لفحات السموم ومعاناة شعل الهجير ، لأنه أصغر اخوته ، ومن المعلوم أن صغير الأولاد يكون في الموضع الأتم من الشفقة في نظر الأم الشفيقة ، فانّها تبره كثيراً وتتعاهده بالنظافة والتعطير وترجيل الشعر ولذيذ المطعم وشهي المشرب ، فاذا كان نائياً عن الأوطان ـ والحال هذه ـ فانه يلاقي عنتاً ، ويجابه شدة شديدة ، ويعاني صعوبة صعبة ، ومشقة شاقة ، سيما من فقد بر الوالدة المشفقة وعطفها وحدبها عليه والطافها.
ومن هنا يعرف أنّ ولد أمير المؤمنين عليهالسلام أشجع العرب ، لأنهم ما شاهدوا حروباً ، ولا خاضوا المعارك ، ولا وقفوا في صف قبال الأعداء ، سوى الحسنين عليهماالسلام وابن الحنفية والعباس عليهالسلام ، وهم جميعاً شباب في ريعان الشبيبة ونضرة الصبا ، بين