وأشار القرآن في آخر مرحلة ـ والتي تعتبر المرحلة الخامسة في خلق الإنسان ـ إلى نعمة الاذن والعين والقلب ، ومن الطبيعي أنّ المراد هنا ليس خلقة هذه الأعضاء ، لأنّ هذه الخلقة تتكوّن قبل نفخ الروح ، بل المراد حسّ السمع والبصر والإدراك والعقل.
والتأكيد على هذه الحواس الثلاث فقط من بين كلّ الحواس «الظاهرة» و «الباطنة» ، لأنّ أهمّ حسّ ظاهري يربط الإنسان بالعالم الخارجي رابطة قويّة هو السمع والبصر ، فالأذن تدرك الأصوات ، وخاصّة أنّ التربية والتعليم يتمّ بواسطتها ، والعين وسيلة النظر إلى العالم الخارجي ومشاهدة مشاهد هذا العالم المختلفة ، وقوّة العقل أهمّ حسّ باطني لدى الإنسان ، وبتعبير آخر فإنّه حاكم على وجود البشر.
والجدير بالذكر أنّ «أفئدة» جمع «فؤاد» بمعنى «قلب» ولكن مفهومها أدقّ من القلب حين يقصد بها عادة الحنكة والفطانة في الفرد ، وبهذا يبيّن الله تعالى في هذه الآية أهمّ وسائل المعرفة والإدراك الظاهرية والباطنية في الإنسان ، لأنّ العلوم والمعارف إمّا أن يحصل عليها الإنسان بواسطة «التجربة» فالوسيلة هي السمع والبصر ، أو عن طريق التحليل والاستدلال العقلي ، والوسيلة لذلك هو العقل والفؤاد كما ورد التعبير عنه في هذه الآية ، وحتّى الإدراك الحاصل من الوحي أو الإشراق والشهود القلبي يتمّ بواسطة هذه الوسيلة أيضا ، أي «الأفئدة».
ولو فقد الإنسان هذه الوسائل للمعرفة ، فسوف يخسر قيمته تماما ويصبح مجرّد كميّة مهملة من المادّة والتراب ، ولهذا نجد الآية الشريفة محل البحث تؤكّد في ختامها على مسألة الشكر لهذه النعم العظيمة على الإنسان وتقول (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) وذلك إشارة إلى أنّ الإنسان مهما سعى في أداء شكر هذه النعم والمواهب العظيمة ، فمع ذلك لا يؤدّي حقّ الشكر.
* * *