الذين هلكوا من قبلهم (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) (١).
نقع مساكن «عاد» و «ثمود» المدمّرة ، ومدن «قوم لوط» الخربة في طريق هؤلاء إلى الشام ، وكانت هذه المساكن مقرّا ومركزا للأقوام الأقوياء المنحرفين ، وطالما حذّرهم الأنبياء فلم يؤثّر فيهم ذلك ، وأخيرا طوى العذاب الإلهي ملفّ حياتهم ، وكان المشركون يمرّون على تلك الخرائب فكأنّ لكلّ بيوت هؤلاء وقصورهم المتهدّمة مائة لسان ، تصيح بهؤلاء أن يتنبّهوا ، وتبيّن لهم وتحدّثهم بنتيجة الكفر والانحطاط ، لكنّهم لم يعبئوا بها ويلتفتوا إليها ، وكأنّهم فقدوا أسماعهم تماما ، ولذلك تضيف الآية في النهاية : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ).
وتشير الآية التالية إلى أحد أهمّ النعم الإلهية التي هي أساس عمران كلّ البلدان ، ووسيلة حياة كلّ الكائنات الحيّة ، ليتّضح من خلالها أنّ الله سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد الضالّين المجرمين ، فإنّه قادر على إحياء الأراضي المدمّرة والميّتة ، ومنح عباده كلّ نوع من المواهب ، فتقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ).
«الجرز» تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شيء قطّ ، وهي في الأصل من مادّة (جرز) على وزن (مرض) بمعنى «القطع» ، فكأنّ النباتات قد اجتثّت من مثل هذه الأرض ، أو أنّ الأرض نفسها قد قطعت تلك النباتات.
والطريف هنا أنّه قد عبّر بـ : (نسوق الماء) وهو إشارة إلى طبيعة الماء توجب ـ بحكم ثقله ـ أن يكون على الأرض وفي المنخفضات ، وبحكم كونه مائعا يجب أن ينزل إلى أعماق الأرض ، إلّا أنّه عند ما يصله أمرنا يفقد طبيعته ، ويتحوّل إلى بخار خفيف يتحرّك إلى كلّ الجهات بهبوب النسيم.
__________________
(١) ذكر أغلب المفسّرين في تفسير الآية ما ذكرناه أعلاه ، إلّا أنّ البعض احتمل أن تكون جملة (يَمْشُونَ) بيانا لحال المهلكين ، أي أنّ أولئك الأقوام كانوا في غفلة تامّة عن العذاب الإلهي ، وكانوا يسيرون في مساكنهم ويتنّعمون بها ، إذ أتاهم عذاب الله بغتة وأهلكهم. إلّا أنّ هذا الاحتمال يبدو بعيدا.