حديثه هذا تخمينا وتوقّعا ، ولكن هذا التخمين أصبح واقعا في النتيجة. واتّبعه ضعفاء الإيمان والإرادة وسقطوا في فخاخه زرافات ووحدانا ، إلّا مجموعة صغيرة من المؤمنين استطاعت تحطيم سلاسل الوساوس الشيطانية ، وتفادت الوقوع في مصيدته ، جاءوا أحرارا وعاشوا أحرارا ورحلوا أحرارا ، ومع أنّهم كانوا قلّة من حيث العدد ، إلّا أنّ كلّ واحد منهم كان يعدل دنيا بأسرها من حيث القيمة المعنوية «أولئك هم الأقلّون عددا والأكثرون عند الله قدرا» (١).
وتشير الآية التالية إلى مطلبين فيما يخصّ الوساوس الشيطانية ، والأشخاص الذين يقعون تحت سلطته ، والأشخاص الذين ليس له عليهم سلطان ، فتقول الآية المباركة : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ).
إذن فنحن الذين نجيز له الدخول ونعطيه تأشيرة العبور من حدود دولة الفردية إلى داخل قلوبنا. وذلك هو عين ما ينقله القرآن عن لسان الشيطان نفسه (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (٢) ، ولكن من الواضح أنّه بعد إجابة دعوته من قبل عديمي الإيمان ، وعبيد الهوى ، لا يهدأ له بال ، بل يسعى إلى إحكام سلطته على وجودهم.
لذا فإنّ الآية تؤكّد أنّ الهدف من إطلاق يد إبليس في وسوساته ، إنّما هو لأجل معرفة المؤمنين من غيرهم ممّن هم في شكّ : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) (٣).
بديهي أنّ الله تعالى مطّلع تماما على كلّ ما يقع في هذا العالم منذ الأزل حتّى الأبد ، وعليه فإنّ جملة «لنعلم» ليس مفهومها أنّ الله تعالى يقول : «بأنّنا لم نكن
__________________
(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار.
(٢) إبراهيم ، ٢٢.
(٣) على هذا المعنى الذي ذكرناه في تفسير الآية ، فإنّ الاستثناء هنا «استثناء متّصل» بقرينة ما ورد في الآية (٤٢) من سورة الحجر : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ، بلحاظ أنّ ظاهر هذه الآية أنّ للشيطان سلطة على الغاوين ـ طبعا بعض المفسّرين احتملوا أن يكون «الاستثناء منقطعا أيضا».