جملة لغتهم كما عنّ ، وعلى ما اتّجه ، لا لأمر خصّ هذا دون غيره مما هذه سبيله ؛ وعلى هذه الطريقة ينبغى أن يكون العمل فيما يرد عليك من السؤال عما هذه حاله ؛ ولكن لا ينبغى أن تخلد إليها ، إلا بعد السبر والتأمّل ، والإنعام والتصفّح ؛ فإن وجدت عذرا مقطوعا به صرت إليه ، واعتمدته ، وإن تعذر ذلك ، جنحت إلى طريق الاستخفاف والاستثقال ؛ فإنك لا تعدم هناك مذهبا تسلكه ، ومأما تتورّده. فقد أريتك فى ذلك أشياء : أحدها استثقالهم الحركة التى هى أقل من الحرف ، حتى أفضوا فى ذلك إلى أن أضعفوها ، واختلسوها ، ثم تجاوزوا ذلك إلى أن انتهكوا حرمتها ، فحذفوها ، ثم ميّلوا (١) بين الحركات فأنحوا على الضمة والكسرة لثقلهما ، وأجمّوا (٢) الفتحة فى غالب الأمر لخفتها ، فهل هذا إلا لقوّة نظرهم ولطف استشفافهم وتصفّحهم.
أنشدنا مرة أبو عبد الله الشجرىّ شعرا لنفسه ، فيه بنو عوف ، فقال له بعض الحاضرين : أتقول : بنو عوف ، أم بنى عوف؟ شكا من السائل فى بنى وبنو ؛ فلم يفهم الشجرىّ ما أراده ، وكان فى ثنايا السائل فضل فرق (٣) ، فأشبع الصويت الذى يتبع الفاء فى الوقف ؛ فقال الشجرى ، مستنكرا لذلك : لا أقوى فى الكلام على هذا النفخ.
وسألت غلاما من آل المهيّا فصيحا عن لفظة من كلامه لا يحضرنى الآن ذكرها ، فقلت : أكذا ، أم كذا؟ فقال : «كذا بالنصب ؛ لأنه أخف» ، فجنح إلى الحفة ، وعجبت من هذا مع ذكره النصب بهذا اللفظ. وأظنه استعمل هذه اللفظة لأنها مذكورة عندهم فى الإنشاد الذى يقال له النصب ، مما يتغنّى به الركبان.
وسنذكر فيما بعد بابا نفصل فيه بين ما يجوز السؤال عنه مما لا يجوز ذلك فيه بإذن الله.
ومما يدلك على لطف القوم ورقّتهم مع تبذّلهم ، وبذاذة ظواهرهم ؛ مدحهم بالسباطة والرشاقة ، وذمّهم بضدّها من الغلظة والغباوة ، ألا ترى إلى قولها :
__________________
(١) ميّل : تردد.
(٢) أكثروا استعمالها. من قولهم : أجمّ البئر ، تركها يجتمع ماؤها.
(٣) الفرق ـ بالتحريك ـ : تباعد بين الثّنيتين. اللسان (فرق).